إنطلاقاً من الدستور ومبادئ الحكم الأساسية في كلّ ديموقراطيات العالم، على السلطة اتّخاذ مبادرات تُحقّق المصلحة الوطنية لا مطالب وأهداف خاصة. هذا ما لا تقوم به السلطات في لبنان، في أكثر وقتٍ يحتاج البلد الى مبادرات تنقذه من الارتطام القاتل. ويأتي تسريب الاتفاق على تكليف الوزير السابق محمد الصفدي ترؤس الحكومة المُقبلة، قبل إجراء الاستشارات النيابية المُلزمة، ليُثبت استمرار تركيبة السلطة الحالية في اعتماد نهج الحُكم نفسه.
اسم الصفدي يأتي على لائحة «كلّن يعني كلّن»، وسبق أن شملت التحركات الاحتجاجية مجمّع «الزيتونة باي» في بيروت، الذي يملكه رجل الأعمال الطرابلسي، والذي يعتبره المحتجون من الأملاك البحرية العامة «المسروقة»، فضلاً عن أنّ الصفدي سبق أن شارك في السلطة وزوجته وزيرة في الحكومة المستقيلة. ويأتي التوافق على اسمه بالنسبة إلى المحتجّين في إطار الممارسة السلطوية نفسها، ومحاولة اجتراح حلول تناسب الأفرقاء السياسيين لا حلول ترضي الشعب وتتلاءم ومتطلبات المرحلة.
أداء السلطة هذا بغالبية أطرافها، هو المُحرّك الأساس لـ«انتفاضة» اللبنانيين. فأيّ تحرّك أكان قطعاً للطرق أم إغلاقاً لمقارّ أو تظاهرة... يأتي بعد قرار من السلطة أو خطاب لأحد المسؤولين يستفزّ الشارع. لكن على رغم شمولهم «كلّن»، إلّا أنّ بعض الشعارات يُطاول رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل أكثر من بقية السياسيين، ما يجعل هذا الفريق يشعر أنّه المُستهدف من «الحراك».
في المقابل، يعتبر مؤيّدون للحراك أنّ «الانتفاضة» هي المُستهدفة من فريق عون وباسيل وليس العكس. ويوضحون أنّ المحتجين ينتقدون تصرفات ومواقف الرجلين وليس شخصيهما، إذ إنّهما لا يكفّان عن استفزاز «الثوار»، واتهامهم بأنّهم مُحرَّكين.
ويعدّد مراقبون أبرز أسباب «النقمة» على عون وباسيل:
- نجاح رئيس الحكومة في امتصاص النقمة الشعبية باستقالته، كذلك ابتعاد بقية الأفرقاء السياسيين عن الساحة الإعلامية وتجنّبهم استفزاز المحتجّين بأيّ موقف، فيما فعل عون وباسيل العكس.
- كانت خيبة الأمل كبيرة في الرهان على عهد «الرئيس القوي»، إذ إنّ النصف الأوّل من الولاية الرئاسية لم يحقّق طموحات الشعب.
- الإصرار على محاكاة حقوق المسيحيين حصراً، على غرار رسالة رئيس الجمهورية الى مجلس النواب لتفسير فقرة في المادة 95 من الدستور المتعلقة بالمناصفة، بدلاً من تطبيق هذه المادة لناحية إلغاء الطائفية.
- وضع باسيل في الواجهة سياسياً وإعلامياً، فكان عون يحيل السياسيين إليه، وهذا ما شكا منه كثيرون وحذّروا الرئيس من تداعياته، لذلك استهدفت بعض الشعارات باسيل انطلاقاً من أنّه في الواجهة ومن شعور بأنّه «أقوى الحاكمين».
- جولات باسيل وخطاباته وفتحه دفاتر الماضي التي استفزّت كلّ الطوائف.
- الشعور بأنّ أولوية العهد خلافة باسيل لعون.
- الفراغ الرئاسي لأكثر من سنتين الى حين الموافقة على انتخاب عون، وتأخير تأليف الحكومات لنيل «التيار» الحصة التي يريدها.
- إحتكار التعيينات المخصصة للمسيحيين في الدولة.
- عدم تحقيق «الإصلاح والتغيير» الموعودَين، على رغم التمثيل الواسع في السلطة، على مستوى رئاسة الجمهورية ومن خلال أكبر كتلتين نيابية ووزارية، فضلاً عن التحالف مع «حزب الله» الذي يؤمّن الغالبية لهذا الفريق في مجلسي النواب والوزراء.
- التسوية الرئاسية التي كان من المُفترض أن تُنتج توافقاً وتسهّل اتخاذ القرارات، لا التناتش على الصلاحيات والحصص وفرملة العمل.
- نكران حقيقة الأوضاع المالية - الاقتصادية ووضعها في إطار التهويل، ما أدّى الى تفاقمها وإيصال البلد الى الانهيار.
- عدم الفصل بين السلطات وتعيين عدد من أفراد العائلة في مواقع المسؤولية.
- الفشل في حلّ الملفات على رغم تسلّم «التيار» وزارات أساسية، وعدم الكشف عن أيّ فاسد.
- عدم تمكّن عون من أن يكون «رئيس الكلّ» فعلاً، وشعور المنتفضين منذ 17 تشرين الأول بأنّه يواجههم، خصوصاً من خلال التظاهرة الداعمة التي توجّهت الى قصر بعبدا، والتي ضمّت «العونيين» فقط.
- تدهور الأوضاع المعيشية.
- الشعور بأنّ «حزب الله» هو الحاكم الفعلي.
أمّا بالنسبة الى «التيار» فإنّ هذا «الاستهداف» مُخطّط له وبدأ منذ تسلّم عون الرئاسة بغية إفشال العهد. «العونيون» مقتنعون بأنّ هناك عملية اغتيال (Character assassination) مُنظّمة لصورتي عون وباسيل، من خلال حملة إعلامية مُموّلة وجزء موجّه من الحراك. ويوضحون أنّ رئيس الجمهورية في لبنان «ليس الحاكم بأمر الله» وأنّ «اتفاق الطائف» قلّص صلاحياته.
وحين يُسأل مسؤولون في «التيار» عن عدم معالجة أيّ ملف، مثل ملف الكهرباء، خصوصاً أنّ « التيار» تسلّم هذه الوزارة لسنوات عدّة، يجيبون: «من عرقل معالجة هذا الملف وغيره من الملفات؟ أليس «القوات اللبنانية» و«الحزب التقدمي الاشتراكي»، ومعهما آخرون أحياناً؟ ومن يتحرّك الآن على الأرض؟ هل هذه مصادفة؟». ويشيرون إلى أنّ فرض قاعدة الإجماع على اتخاذ القرارات في مجلس الوزراء عرقل عمل السلطة التنفيذية.
وإذ تقول مصادر قريبة من عون إنّ «وراء الأكمّة ما وراءها»، تؤكّد أنّ «هناك من يلعب بوضع البلد، ويستمرّون بقطع الطرق بطريقة مدروسة بهدف شلّ حركة الناس والدولة». وتؤكّد أنّ «الرئيس يتجاوز كلّ الانتقادات والشتائم، فهو «بيّ الكل» ويمارس هذه الصفة فعلاً، فهو يؤدّي واجباته ويرضي ضميره».
لكنّ أيّ خطوة مستقبلية قد يعتبرها المحتجون استفزازية، وقد يصرّون على مطلب إسقاط الرئيس الذي قال في مقابلته التلفزيونية مساء الثلاثاء الماضي: «يراجعوا تاريخي، إذا عجبن يضلّوا معي، إذا ما عجبُن أنا بفل ويجيبوا غيري».
فهل هذا الخيار مطروح الآن؟ تجيب المصادر: «تنحّي الرئيس غير مطروح. وأتى كلامه فرضاً وتعبيراً مجازياً».
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك