ملحم خلف إبن الأرض، رجل القِيَم، الجيزويتي الضارب الجذور في النضال من أجل لبنان الإنسان، بالحقوق المصانة والكرامة السياديّة، والذاكرة المنقّاة من تشوّهات فرضتها عليها منظومة سلطويّة متكاملة. ملحم خلف نقيباً للمحامين في بيروت انتصار لخيار الاستبلشمنت القانوني في لحظة استثنائية مفصليّة من تاريخ لبنان المعاصِر.
الانتصار عميق الدلالات ويُقتضى التفكّر في مندرجاتهومآلاته، إذ إنّه يمثّل طبيعة مؤكّدة للانهيارات الأولى للمعاقل الوطنية التي صادرتها السُلطة.
لا حاجة للاسترسال في الإضاءة على محوريّة نقابة المحامين في بيروت أم الشرائع، من حيث أنها مؤتمنة على أداء دورٍ تحفيزيّ من خارج السُلطة القضائية لتعميم مسار تسيُّد العدالة على قاعدة تطبيق الدستور والقانون، بل حتى الانخراط في ديناميّة لوبيينغ لتطويرهما، بالاستناد الى ألمعيّة المحاميّات والمحامين المنتمين إليها - كذا السياق عينه في طرابلس حتماً - لكن بالعودة أيضاً الى أنّ سياسيّين مخضرمين منذ الميثاق إنتموا إليها، وشكّلوا رافعةً إنقاذيّة لبقاء لبنان حيّاً، في خِضم منزلقات محاولات تغيير هويّة الصيغة اللبنانيّة، بما هي هذه الصيغة دولة قانون ومؤسّسات في مواجهة نظام مركنتيليميكيافيلليّتحاصصي، أمعنت السُلطة في تجذيره في الأربعين عاماً الماضية.
لم تفلِح نضالات نقابة المحامين في بيروت في الانتفاضة الكاملة على ما نجحت السُلطة في تعميمه وتعويمه بما في ذلك تطويع القضاء أو بعضه، لكنها حتماً برعت في التقاط لحظاتٍ دقيقة لترفع الصوت عالياً في التصدّي لاستباحاتمتتالية للدستور والقانون، وهنا بيت قصيد انتصار نقيبٍ سعت أحزاب السُلطة لإسقاطه في حين هي ثورة الناس في أوجِّها مستمرة منذ إثنين وثلاثين يوماً.
براعة نقابة المحامين في بيروت أنتجت تغييراً راديكاليّاً في نمطيّة انتخاب النقباء على مدى الأربعين عاماً الماضية، وليس الحديث أبداً عن صلابة ونقاوة كلّ النقباء وأعضاء مجلس النقابة الذين شغلوا هذا الموقع الوطني الأخلاقي، فلهُم كلّ التقدير، بل عند ديناميّة الانتخاب الذي عايشناه هذه المرّة. وهذا يستدعي قراءةً في التجرّؤ على ترسيخ الانهيارات الأولى للسُلطة، بمعنى قدرتها على فرض رجالاتها وخياراتها في المربّعات النقابيّة، تلك في المِهن الحرّة أو النقابيّة، بما أفرغ العمل النقابي من سماته الوطنيّة، إمّا لصالح الانكفاء للحيّز المهنيّ الخاص، أو لجهة التموضع في محورٍ حاكم وخدمته غبّ الطلب. النماذج الحيّة كثيرة في هذا السياق. يكفي العودة الى مفاهيم تفوّقت في كسر حُججيّة إمكان تأثير العمل النقابي في الرقابة على السياسات العامة للسُلطة، هذه السياسات العامة التي حُوِّلت سياسويّة حزبيّة فئويّة شخصانيّة، ما جعلها منحازة لتضليل مستدام لحقوق الناس، وتعجيز منصّات النضال لتثبيت هذه الحقوق، أو تكريسها مطية لخاطفيها.
وقد تبدّت، في هذا السياق، بعض الحركة النقابيّة إمّا في مساحة الاستسلام، أو التواطؤ، أو الترقّب. في كلّ هذه المساحات كانت حلباتٌ إمّا لتوافُق السُلطة على إيصال مرشّحين، أو تنافسٍ لإبراز مكانةٍ شعبيّة ونخبويّة، خلوصاً الى مسرحةِ تحالفاتٍ حزبيّة بروفالإنتخاباتٍ نيابيّة أو تسمياتٍ وزاريّة. نجحت السُلطة بما هي منظومة متكاملة في الاستيلاء على الحركة النقابية لعقود خلت.
من هنا يتبدّى جليّاً أن نتائج انتخابات نقابة المحامين في بيروت أعادت التوازن للكتلة الناخبة الصامتة، التي ربما اختارت في مراحل سابقة الانسحاب من حلبةِ النضال لقرفٍ، أو يأسٍ، أو حتى للاثِقة بإمكان إحداث تصدّعٍ في المنظومة المصادِرة للفضاء العام، بما هو خدمة للخير العام تفادياً لمأساة المشتركات.
لم يكن مطلوباً أبداً كسر الانتماءات الحزبيّة للكتلة الناخبة المنظّمة، ففي كلٍّ منها كفاءاتٌ آدميّة وعلاّمة وجريئة، ولكن، ما كان واضحاً، ينجلي في إصرار الكتلة الصامتة على توجيه رسالةٍ صارمة لمواقع السُلطة مفادها أن زمن اعتبارهم رافعة لإنتهاك السلطة لحقوق الوطن والناس وهمٌ، ولم يكن يوماً حقيقة، سوى بفِعل أن هذه الكتلة منحت السلطة فُرصاً عدّة لإنقاذ لبنان، لكن هذه الأخيرة آثرت الإنقضاض على كلّ الديونتولوجيا التي تحكُم الضمير الوطني والمهني، ومن غير المسموح استمرار الاستنقاع في مراوحةٍ قاتلة سبق الناس الكل في الثورة عليها في الشارع.
ولم يكن مطلوباً على الأرجح محاكمة الإنتماءات الحزبية تعميماً، بل إعلان انتهاء صلاحية خوض سياسويّاتٍ انتهازية في موطن العدالة والعدل بشعاراتٍ لا علاقة لها أساساً برُقيّ إلتزام الأحزاب الانتماء لبرامج همُّها كرامة الإنسان، وسيادة القانون بما هو نَسَقٌ تساوويّ في العقد الاجتماعي أكثر منه حالة زجريّة انتقائيّة أو بوليسيّة، أو تمظهرٌ شكليّ لخدمة مصالح هنا وثمّة.
وما لم يكن مطلوباً حتماً أيّ انسياقٍ لنشوةٍ انتصارٍ مرحلي، بقدر ما الانحياز لحِقبةٍ تأسيسيّة وطنيّة تنطلق فيها شرارة تحرير العمل النقابي في لبنان، كلّ العمل النقابي، من عنكبوت السُلطة، ما يؤمِّن حتى للطاقات الحزبية الشابة الكفؤ والنظيفة الإقتناع بموجب التمرّد على صورة الزعيم والطائفة والمصلحة الخاصة، والانخراط في مسيرة إنقاذٍ استراتيجيّة مهّدت لها الانهيارات الأولى لمعاقل السُلطة، في اختيار ملحم خلف نقيباً للمحامين في بيروت، باتجاه إرساءِ نهجٍ غير تقليدي في مرحلة واعدة رغم ما قد تحمله من تضحياتٍ يعود فيها لبنان الى أصالته بعد أن شوّهه نهجٌ توتاليتاريّ مُقنّع، واستقطابيّ موجَّه، وتلاعبيّ ممنهج، وتكاذبيّ مُجمَّل، واكباب على ضرب الشرعية باسم مشروعية كاذبة، انتهاء بسحق الدستور ارتكازا إلى فائض قوة قاتل للميثاقية بحقيقتها الصافية.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك