نادراً ما تشكّل فترات قصيرة من الزمن عامل تحوّل إيجابي في مسار الأوطان، وفي بناء سلطات وجمهوريات، خصوصاً في لبنان. ففي عام 1982، تحوّل بشير الجميل حلم وطن في 16 يوماً. في الـ2005، شكّل 14 آذار تاريخاً مهماً في وجدان وطن، ولعلّ 17 تشرين الأول يكون محطة مشرقة في بناء وطن.
34 يوماً أسقطت الكثير من الحواجز السياسية والحزبية والسلطوية والنفسية، فأُربكت السلطة، واهتزت هامات العهد، وحمل شباب وشابات لبنان شعلة التغيير في انتفاضة نحو وطن حقيقي.
34 يوماً، وضعت الطبقة السياسية في موقف دفاعي وعرّتها من شرعيتها القانونية، من «شعوب لبنانية» تحوّلت شعباً واحداً وقضية واحدة. فأصبح اللبناني لبنانياً، وتوحّد اللبنانيون واضعين طوائفهم جانباً، لمصلحة لبنان أولاً، والوطن، والدولة، بحسب ما اكّدت الدكتورة منى فياض، الباحثة والكاتبة والناشطة في الحراك لـ«الجمهورية»: «كشفت الثورة الوعي المدفون لدى اللبنانيين وحتى لدى الطلبة والتلاميذ. وأثبتت أنّ سلطة الشعب هي التي تقرّر».
في السياسة، أُسقطت الحكومة، قُطعت الطريق على توزير أيّ شخص من الطبقة السياسية نفسها، أُلغيت أول جلسة تشريعية، وكان في جدول أعمالها إقرار قانون للعفو يبرئ حتى من هم متهمون بالفساد.
وُضعت آليات جديدة لمحاربة الفساد، وامتلك الناس الشجاعة للمبادرة بتقديم شكاوى في حق مسؤولين فاسدين. بدأت مؤشرات حسن تفعيل القضاء، علماً أنّ الانتفاضة فرضت انتخاب النقيب الجديد للمحامين ملحم خلف. مطلب القانون بات سائداً كما المطالبة بقضاء مستقل.
يرى «التيار الوطني الحر»، أحد أحزاب السلطة ايجابيات في الحراك، و«الإنجاز الأهم بالنسبة له وللاصلاحيين، أنّه دعم مسألة مكافحة الفساد، وبالتالي لم يعد ممكناً لأي طرف أو شخصية سياسية أن تستسهل مدّ اليد على المال العام بالشكل الذي كان يحصل في السابق».
وقال عضو تكتل «لبنان القوي» النائب حكمت ديب لـ«الجمهورية»: «عانينا الأمريّن من خلال طرح اقتراحات قوانين تتعلّق بالشفافية والجرائم المالية ومكافحة الفساد، لكن هذه المبادرات بقيت شكلية كون هذا العمل هو الوسيلة الوحيدة المتاحة امامنا، لكن الحراك جاء ليدعم هذا الأمر، ويدعم من يسعون الى وضع حد للفساد. لذلك، اليوم من الصعب ان نرى استسهالاً لإمرار الصفقات، كشراء مبنى الـMTC على سبيل المثال، وملف الـ11 ملياراً وحسابات مالية أخرى مرّت عليها سنوات من دون موازنة».
ورأى أنّ مطلب إسقاط النظام بعيد عن الواقع. فلبنان بلد التسويات، وهناك ثوابت ومسلّمات تحكم طريقة العمل، والنظام يمكن تصحيح الشوائب فيه من الداخل، معتبراً انّ تعميم رفض الأحزاب، يدلّ الى عدم نضوج سياسي. فالعمل السياسي لا يستقيم من دونها. ورفض الاحزاب مقولة «بتضحّك».
رموز تهتزّ
لم ينحصر تحرّك المنتفضين ضمن دائرة معينة أو حيال سلطة محدّدة، فهو كان صادقاً منذ البداية بشعار «كلن يعني كلّن»، فتجرّأ أمس ليكسر ما عجزت عنه السياسة اللبنانية التقليدية بكل وجوهها وأحزابها وفئاتها ومراجعها، فحجب الثقة عن البرلمان نواباً ورئيساً.
فتسلّل عدد زهيد من النواب للمشاركة في الجلسة التشريعية التي أصرّ الرئيس نبيه بري على عقدها، أو دخول بعضهم عبر عراضات عسكرية، وبعيداً من «الآيات» القانونية و«الأحاديث الدستورية» في شأن أحقية انعقادها أم لا، ظاهرة لم يشهدها مجلس النواب أبداً، وهو الذي يُعتبر مربّعاً أمنياً يأتمر برئيسه منذ زمن. فبات المطلب اليوم، بعد استقالة الحكومة، إسقاط البرلمان، كما تقول فياض، التي اعتبرت أنّ بري «يتصرّف كإمبراطور للبرلمان وليس كرئيس له، وهو الذي أصرّ على خرق الدستور من خلال الدعوة الى جلسة تشريعية بوجود حكومة مستقيلة، فوضع البرلمان في وجه الشارع».
هدف الحراك
وتقول فياض: «نريد ان يحكم لبنان نفسه بنفسه ولا يكون ضمن سياسة المحاور، ولا نريد أحداً أن يؤلّف لنا حكوماتنا، فنحن نؤلّفها. والمطلوب اليوم من الطبقة السياسية باختصار ان تصغي الى مطالب الشعب».
تواريخ كثيرة تطبع روزنامة الأحداث اللبنانية، معظمها سوداوي، أما أكثرها إيجابية فكان يوم 14 آذار 2005. فبعد «ثورة الأرز»، حُكي عن ثورات أرز لا نهاية لها حتى تحقيق لبنان الجديد، ولعلّ 17 تشرين الأول يكون تاريخاً مضيئاً في مستقبل لبنان. فبعد هذا التاريخ غير ما قبله. وكل يوم بعد 17 تشرين الأول، سيقول الشعب: «الأمر لي».
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك