اظهرت احتفالاتُ عيد الاستقلال في لبنان، الجمعة، الهوّة السحيقة بين السلطة والشارع، فيما الهاويةُ المالية - الاقتصادية تُنْذِر بتداعياتٍ اجتماعية مخيفةٍ على طريقة «صندوقة باندورا».
ولم يكن ممكناً القفزُ فوق خلاصاتِ المشهديْن المتناقضيْن المدجَّجَيْن بالرسائل اللذين ارتسما في الذكرى 76 للاستقلال: الأول مع «الاحتفال الكئيب» والمختصَر في مقرّ وزارة الدفاع الذي حضره رئيسا الجمهورية ميشال عون والبرلمان نبيه بري ورئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري وتخلّله عرْض عسكري رمْزي، والثاني «انفجارُ الفرح» بالمناسبة نفسها وخصوصاً في وسط بيروت حيث كانت احتفالية غير مسبوقة في تاريخ البلاد مع عرْضِ مدني لأكثر من 40 من «أفواج الثورة»، وزاد من وهجه استقطابه مغتربين «لبوا نداء الساحات» لمشاركة المنْتفضين في حلم بناء «لبنان الجديد».
وإذ شكّل الزحف البشري إلى وسط بيروت ومناطق عدة إشارةً جديدة لاستمرار الالتفاف الشعبي حول الانتفاضة التي لملمتْ «جُرْحَ» حَرْقِ مجسّم الثورة العملاق (على شكل قبضة يد) في «ساحة الشهداء» (فجر الجمعة) فأعادت رفْع النسخة الثانية من «قبضة الثورة» وفي المكان نفسه (بعد نحو 12 ساعة)، فإنّ «احتفالَ الدولةِ» في اليرزة جاء مُحَمَّلاً بالمؤشراتِ البالغة السلبية حيال أفق الأزمةِ التي باتت تُطْبِق على الواقع اللبناني في ضوء ما عكستْه الوجوه الرئاسية المكفهرّة ولا سيما بين كل من عون وبري وبين الحريري من أن «الجدار الفاصل» عن إيجاد مَخْرج من المأزق المتفاقم ما زال يزداد سماكة.
وفي غمرة الغبار الكثيف الذي يلفّ الوضع اللبناني والذي صارت تعقيداتُه المتوالدة تحجب «لبّ الأزمة»، رسمتْ أوساطٌ مطلعة عبر «الراي» لوحةً قاتمة حيال ما ينتظر «بلاد الأرز»، معتبرةً أن مَن بيده «القفل والمفتاح» في المأزق الحالي هو تحالف فريق عون و«حزب الله» الذي يحاذر التقدّم خطوةً إلى الأمام ولا يريد التراجع خطوة الى الوراء، وذلك عبر احتجاز الملف الحكومي تكليفاً (للرئيس العتيد) وتأليفاً في الوقت الذي تتناسل الأزمات، والأفظعُ فيها الواقع المالي والانهيار المكتوم الذي يفتح الباب على مآسٍ اقتصادية - معيشية يزيد من وطأتها ما يشبه «الحصار الذاتي» المفروض على البلاد بفعل فرْملة حركة الاستيراد نتيجة التقنين الصارم في تحويل الدولار الى الخارج كما في سحبه في الداخل ما يهدّد بانفجار اجتماعي وربما اضطراباتٍ أمنية.
وصار واضحاً في رأي هذه الأوساط أن هذا التحالف يستعمل أي معطى خارجي، وكان آخِره كلام السفير الأميركي الأسبق في بيروت جيفري فيلتمان، للمضيّ في «استرهان» الوضع الداخلي وصولاً إلى حكومةٍ تكنو - سياسية يلتقي عليها كل من فريق عون و«حزب الله» لاعتباراتٍ تتقاطع في النهاية عند هذا «الهدف» الذي لا رجوع عنه في الأفق المنظور.
وتقول الأوساط عيْنها لـ«الراي» إن «حزب الله» يصرّ على الحكومة التكنو - سياسية لاعتباريْن: الأول أن أي موافقة على حكومة الاختصاصيين المستقلين التي يتمسّك بها الحريري يعتبرها الحزب بمثابة هزيمة له وتصفيرٍ لنتائج الانتخابات النيابية الأخيرة التي فاز فيها (مع «التيار الوطني الحر» وحلفائهما)، وأن أي إخراج له من الحكومة سيعني «كشْفه» سياسياً أمام العقوبات الأميركية.
أما السبب الثاني فيرتبط بإصرار «حزب الله» وشريكه في الثنائية الشيعية أي بري، على أن يترأس الحريري الحكومة الجديدة أو بالحدّ الأدنى أن يوافق على الاسم الذي سيشكّلها على أن يشارك تيارُه (المستقبل) فيها، وهو الأمر الذي تقول الأوساط انه يتّصل برغبة الحزب في ألا تُرمى «كرة النار» المالية - الاقتصادية في أحضانه فيتحمّل تالياً مسؤولية السقوط المريع، بعدما كان أمينه العام السيد حسن نصرالله حذّر غداة انطلاق ثورة 17 أكتوبر من أي هروب من المسؤولية من قبل الحريري وآخَرين و«رمي المصيبة علينا».
ومن هنا، تعتبر هذه الأوساط أن «التيار الوطني الحر» الذي يخوض المواجهة مع هذه الأزمة وفق حساباتٍ تتصل باستحقاقاتٍ مقبلة ليس أقلّها الانتخابات الرئاسية، يتقاطع مع الحزب في رفْض تقديم تنازلاتٍ ولو تحت ضغط «القنبلة الموقوتة» المالية - الاقتصادية، متوقّفة عند أن الحزب رسم «خطاً دفاعياً» عنوانه «الحق على الأميركيين» في تأخير تشكيل الحكومة وتالياً في المخاطر المالية نتيجة العقوبات، وصولاً لتلويحه بالقدرة على الانتظار الطويل إلى أن ييأس الأميركيون، وهو ما عبّر عنه نائب أمينه العام الشيخ نعيم قاسم حين قال «عندما يتحدث فيلتمان عن لبنان كمكان للمنافسة الاستراتيجية العالمية، فهذا يعني أنه يريد حصته من إدارة لبنان»، معتبراً أن «المعرقل الأول في تشكيل الحكومة هو أميركا لأنها تريد حكومة على شاكلتها».
وفي موازاة المراوحة الداخلية، أكدت موسكو بعد اللقاء الذي جمع مستشار الحريري للشؤون الروسية جورج شعبان بنائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، أن روسيا تعتبر أن شكل الحكومة شأن داخلي وأنها لا تتدخل في ما يعود إلى اللبنانيين أن يقرروه بالتوافق في ما بينهم، فيما كان السفير الروسي الكسندر زاسيبكن يعلن أن «دورنا ايجابي في لبنان، أمّا دور أميركا فتخريبي» موضحاً أنّ العقوبات على «حزب الله تؤثر على كل النواحي المالية والاقتصادية والاجتماعية».
وفيما كانت كل الأجواء التي رافقت الحِراك الخارجي ذات الصلة بالأزمة اللبنانية تشي بأن لا مبادرة قابلة للحياة بالأفق في غياب التقاطعات الدولية ولا سيما التفاهم الأميركي - الروسي، تشخص الأنظار إلى الجلسة التي يعقدها مجلس الأمن غداً لمناقشة التقرير المتعلق بتطبيق القرار 1701 والذي لن تغيب عنه الأوضاع في لبنان في ضوء التحذيرات المتكرّرة للمنظمة الدولية من استمرار التأخير في تشكيل الحكومة ومن المخاطر الكبرى المترتّبة على الأزمة المالية.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك