"منذ البدء عرفنا أن صوت فيروز مميز. لذا أخذنا جماله الطبيعي الخارق، وتفرّدها وحضورها المذهل، واشتغلنا بخصائص في صوتها مختلفة عن أصوات الآخرين. صوت فيروز ليس صوتاً وحسب، إنه ظاهرة متكاملة لا تتكرر. فأنت تستمع مع صوت فيروز إلى كلام ولحن جميل، إلى أداء لديها تبلور مع الايام. وإلى لفظ انصقل جيدا بمخارج الحروف.
فيروز في مطالعها لم تبدأ وحدها. بدأت مع عاصي ومنصور وصبري الشريف في ليالي التعب والتمارين والصقل. بدأنا مؤمنين بالخط الذي كنا نشتغل فيه، إطلاقة الصوت المميز، كتابة الشعر المميز واللحن المغاير، ومبادئ ثابتة: لا نغني الأشخاص بل الأوطان والشعوب. ونادراً ما عرف الناس هيئة أركان كانت تخطط خلف صوت فيروز كي لا يظل صوتاً وحسب. تأثروا بصوتها فكان فاعلاً فيهم وموجهاً إياهم. هكذا، بجمال صوتها الخارق والمواضيع التي حملها هذا الصوت، صارت فيروز قضية عامة وطنية تغنّي هموم الناس.
والاختبارات التي خضع لها صوت فيروز كانت فعلاً أعجوبية، لا يمكن أن تحتملها فنانة غير فيروز. تنقلت من صعوبة إلى أخرى: غنت القطع الكلاسيكية، غنت القطع الشعبية، غنت الموشحات والمواويل، غنت أغنيات الأطفال، غنت القطع المترجمة (وهذه كانت أكبر اختبار: كنا نأتي بقطع صعبة جدا إيطالية أو إسبانية أو فرنسية فتغنيها جميعها ببراعة فائقة).
لم يبقَ نوع من الأغنيات، شرقي أو غربي أو موشحات أو قصائد، وكثيرها غاية في الصعوبة، إلا غنّاها صوتها الفريد بعد غنى التجارب التي مرّ بها. نحن استفدنا خبرة مع الأوركسترا، وفيروز استفادت خبرة صوتية. أوركسترات بكاملها كانت تأتي لخدمة صوتها. أعمال كاملة أيام "إذاعة الشرق الأدنى" كنا نسجّلها ولا تعجبنا، فنلغيها ونعيد تسجيلها من جديد. ولصبري الشريف هنا فضل كبير.
هذا هو المشروع الثقافي الضخم الذي جئنا به، فجاء الغناء الرحباني مغايراً كل ما كان موجوداً في الشرق (حتى في أوروبا قِطَعُنا مختلفة عن المألوف الموجود). وهكذا ربما تسمع اليوم صوتاً فتستغرق بعض دقيقة لتعرفه، بينما حين تسمع فيروز تقول فوراً: "هذه فيروز"، وتسمع اللحن الرحباني فتقول: "هذا لحن رحباني".
لهذا قلتُ إن فيروز، إضافة إلى جمال صوتها وموهبتها الخارقة، ظاهرة لا تتكرّر: صوتها مميز، إطلاقة صوتها مميزة، الكلام الذي حملته جاء جديداً (حتى تأثر به شعراء في العالم العربي سواء بالشكل أو بالمفردات)، الألحان مميزة، التوزيع الموسيقي مميز (توزيع ربع الصوت مثلاً)،... كل ما جاء في هذا الصوت من خوارق، وما خلف هذا الصوت من تجارب وصقل، جعل منه رمزاً من رموز هذا العصر، تأثر به الناس، وكتب له الشعراء وانفعلوا به لأنه لم يكن... مجرد صوت وحسب".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك