كتبت راغدة درغام في "النهار العربي":
أمام الرئيس الأميركي جو بايدن فرصة فريدة، إذا أحسن الاستمرار في توظيفها، لنقلة نوعية في تناول ملف النزاع في الشرق الأوسط بشراكة غير مسبوقة مع دول اقليمية فاعلة كالسعودية والإمارات ودول عربية معنيّة كمصر والأردن ولبنان وسوريا وفلسطين. أول ما عليه القيام به- وهو يفعل ذلك- هو رفض استدراج إسرائيل للولايات المتحدة لتدخل معها شريكاً في حرب موسّعة تستهدف "حزب الله" في لبنان وإيران في طهران- وليس فقط عبر وكلائها في سوريا واليمن ولبنان. فإسرائيل لا تريد أن تبقى بمفردها في هذه الحرب المفاجئة، وهي ترى فرصةً للقضاء على خطر صواريخ "حزب الله" على حدودها وخطر البرنامج النووي الإيراني الذي تعتبره تهديداً وجودياً لها.
ثانياً، على الرئيس الأميركي الاستمرار في رسائله الحازمة إلى القيادة الإيرانية بألاّ ترتكب حماقة الاستفزاز أو الابتزاز، لأنّها ستكون مكلفة لها بكل المعايير والمقاييس. وكما كان متوقعاً، اختارت إدارة بايدن ساحة سوريا لعمليات عسكرية هدفها إبلاغ طهران أنّها في غاية الجديّة.
ثالثاً، ضرورة الاستثمار السياسي بالسلطة الفلسطينية التي يترأسها محمود عباس لتمكينه من قلب الطاولة على التعاطف مع "حماس"، حتى وهو ينحسر شعبياً ويزداد في الحسابات الروسية والإيرانية لغايات نرجسية وليس كتعاطف مع الشعب الفلسطيني.
ورابعاً، لم يسبق أن كانت بعض المواقف العربية بهذا القدر من الجهوزية لتحدّي إسرائيل إلى صنع السلام والتطبيع معها حتى في أعقاب الانقلاب الذي أعدّته طهران ونفّذته "حماس" في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري على مسيرة التطبيع.
هذا يتطلّب من الرئيس بايدن توفير الذخيرة السياسية الضرورية لهذه الدول لتمكينها من تنفيذ استراتيجية السلام- يتطلّب منه الجرأة على مخاطبة الحقوق الفلسطينية في الساحة الأميركية بلغة عملية وحازمة وعادلة وصارمة في وجه الاندفاع السطحي لتبنّي الرواية الإسرائيلية بأنّ القضاء على "حماس" يحلّ المشكلة الفلسطينية. فهذا هو وقت الشجاعة على إجبار إسرائيل أن تتقدّم بمبادرة بمستوى المبادرة العربية للسلام التي أطلقتها السعودية في القمّة العربية في بيروت قبل 21 سنة، والتي تبقى الرياض مستعدة لإحيائها- حتى بعد أحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر) بحلّة جديدة ترافق قطار التطلّعات الرؤيوية مهما كانت سكة التحدّيات أمامه تبدو غير سالكة.
لا الصين ولا أوروبا ولا روسيا قادرة على القيادة الإيجابية والفعّالة في هذا المنعطف. فقط وحدها الولايات المتحدة الأميركية قادرة على اقتناص الفرصة المتاحة لتغيير جذري في منطقة الشرق الأوسط.
يمكن للإدارة الأميركية الاستفادة من دعوة الصين إلى مؤتمر دولي لتقول للصين إنّها ترحّب برغبتها المشاركة في صنع التقارب بين الدول الفاعلة في الشرق الأوسط، على نسق رعايتها للاتفاقية المهمّة بين السعودية وإيران. فلن يكون في ذهن الصين الاستعداد لرعاية مؤتمر سلام في الشرق الأوسط لأنّها تدرك حدود نفوذها ولأنّ ذلك ليس ضمن أولوياتها.
بالرغم من ذلك، من المفيد لإدارة بايدن أن تطمئن الصين أنّ جهودها التوفيقية مرحّب بها، لاسيّما إذا أبدت موقفاً غاضباً من إيران- وراء الكواليس أو أمامها- بسبب محاولة انقلابها الاستراتيجي الهادئ على الاتفاقية مع السعودية. فرجال طهران وجدوا في رجال "حماس" فرصةً لإبلاغ السعودية والدول الخليجية العربية الأخرى انّ كلام التطبيع مع إسرائيل لا يعجبهم، وأنّ في وسعهم وضع العصا في عجلة التطبيع- كما فعلوا موقتاً. الأمر عائد إلى الصين لتقرّر إن كان ذلك انتهاكاً للتفاهمات السعودية- الإيرانية، أو إن كانت تتفهمّه بسبب الانقسامات داخل المؤسسة الإيرانية الحاكمة.
ذلك الانقسام داخل صفوف الحكم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية قد شقّ طريقه الى صفوف حركة المقاومة الإسلامية "حماس" حيث يصرّ الجناح العسكري على التصعيد ضدّ إسرائيل مهما تكن كلفته على الشعب الفلسطيني في غزة. فهدف "حماس" يبقى إبراز "بطولية" الحركة التي يدرّبها "الحرس الثوري" الإيراني، تسليط الأضواء على "الجبن السياسي"- في رأيها- للسلطة الفلسطينية وحركة "فتح"، الاستفادة مما تعتبره تعاطفاً عالمياً مع مأساة شعب غزة حتى ولو كان بابتزاز لهذه الكارثة، وتقديم الخدمة للتطرّف الإسرائيلي الرسمي والشعبي عبر توفير الذرائع لإجراءاته العقابية الإبادية في غزة وسط تصفيق دولي غير مسبوق ومرعب.
أثناء زيارة وفد من "حماس" إلى موسكو هذا الأسبوع، طلبت "حماس" أن يجري الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتصالاً مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ليحضّه على عدم القيام بالاجتياح البري الكبير لغزة. ما قاله الوفد أيضاً، بحسب مصادر روسية مطّلِعة، هو أنّ لا وحدة في صفوف "حماس" بسبب إصرار الجناح العسكري على التصعيد ميدانياً، إنما إذا وعدت إسرائيل بعدم تنفيذ الاجتياح البري وتحدثت بلغة دولة فلسطينية مستقبلاً، إما مباشرة أو عبر الأميركيين، ستبدي "حماس" استعداداً لخطوات نحو السلام ووقف القتال.
أضاف المصدر المطّلِع أنّ ما أبلغه وفد "حماس" إلى الروس هو أنّ "حماس" ليست في حاجة الى تدخّل ناشط بإجراءات موسّعة من "حزب الله" في هذا المنعطف وفي هذا الوقت.
أما إيران، وبحسب المصدر ذاته، فإنّ ما تريده هو إنقاذ "حماس" كمنظمة وكحركة، وإنقاذ غزة من احتلال إسرائيلي جديد. تريد إيران من روسيا عدم السماح لإسرائيل بسحق "حماس". أما موسكو، فإنّها تريد العمل نحو إيجاد صيغة جديدة ووضع جديد يسمحان باستمرار "حماس" أقل راديكالية جاهزة للحلول الوسط.
طهران لا تريد التدخّل الموسّع والأكثر نشاطاً مما يقوم به "حزب الله" طالما أنّه يُبقي إسرائيل متوترة ويلهيها على الجبهة الشمالية. هذا هو موقفها الآن. أما ما قد تمليه التطورات الميدانية، فإنّه شأن آخر. المهم أن لا قرار من طهران حتى الآن بفتح جبهة "حزب الله" في شكل كامل.
أحد أهم الأسباب هو أنّ "حزب الله" يشكّل "ورقة ردع تحمي الجمهورية الإسلامية الإيرانية"، كما قال مسؤول خليجي واسع الاطلاع. طهران لا تستغني بسهولة عن أداة ردع تحميها، لاسيّما وأنّ مصلحتها ما زالت تقتضي التأنّي الاستراتيجي وليس الاندفاع الى المغامرة بالمواجهة المباشرة إما مع الولايات المتحدة أو مع إسرائيل، وليس عبر الوكلاء كالعادة. فمثل هذه المواجهة المباشرة تشكّل معادلة عسكرية، الأرجح أنّ طهران ليست جاهزة لها- أقله ليس من أجل "حماس" أو من أجل غزة أو من أجل فلسطين.
بعض الدول الخليجية، مثل عُمان، ما زال يلعب دوراً وراء الكواليس ويفتح قناة غير مباشرة بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية لاحتواء التوتر ومنع الانزلاق. السعودية ما زالت متمسكة بالاتفاقية مع إيران، وهي تشكّل لها أحد أهم وسائل فك العزلة عنها، ما يفسّر استمرار طهران بالاتفاقية مع السعودية، مع أنّها لم تؤد حتى الآن إلى أية إنجازات إقليمية بما في ذلك المحطة الأولى والأهم، أي اليمن.
أجواء اليوم تفيد برغبة إيرانية- روسية بإبراز العلاقة الاستراتيجية بينهما، وقد كان ذلك جليّاً في زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى طهران وزيارة نائب وزير الخارجية الإيراني إلى موسكو. روسيا تسعى وراء نوع من "التوازن" بين دعمها المصالح الإيرانية في المنطقة وبين وقوفها ضدّ انخراط إيران في حرب موسّعة. موسكو لا تريد أن تخسر نفوذها على إيران و "حزب الله" و "حماس"، ولذلك هي تلعب ورقة توطيد العلاقات "التاريخية" مع هذه الجهات فيما تزعم رسمياً أنّها تريد مجرد "إنهاء النزاع".
واقع الأمر هو أنّ روسيا تريد "إنقاذ حماس" والحؤول دون سحقها، لكنها لن تعترف بذلك رسمياً. روسيا تنظر إلى "السلطة الفلسطينية" برئاسة محمود عباس على أنّها عاجزة، وأنّ "حماس" هي المؤهّلة للقتال من أجل فلسطين. روسيا تعمل في المحافل الدولية ضدّ "السلطة الفلسطينية" وتدعم "حماس" علناً لأنّها تجد في ذلك فرصة لاستعادة دور لها في وجه الغرب وبالذات الولايات المتحدة، وكذلك في وجه الدول العربية التي تحمّل "حماس" جزءاً كبيراً من مسؤولية مأساة غزة، وتعتبرها أداةً إيرانية وليس حركة وطنية فلسطينية.
القاسم المشترك بين الموقف الروسي والموقف الأميركي هو معارضة قيام إسرائيل باجتياح بري كبير، ومعارضة فتح الجبهة اللبنانية- الإسرائيلية كما معارضة انضمام إيران الى حرب موسّعة. وهذا مهمّ. لكن دور موسكو يبقى محدوداً مقارنة مع الدور الأميركي.
فموسكو تبحث عن دور لها عبر "حلول موقتة" وانتقالية، فيما أمام الولايات المتحدة وحدها فرصة التوصل إلى "حلول نهائية" وإلى "إعادة هيكلة" الشرق الأوسط برمته.
أدوار الدول العربية في إعادة الهيكلة بالغة الأهمية. للسعودية بالذات مساهمة أساسية في إعادة الهيكلة والحل النهائي، لأنّ الرياض تملك اليوم قوة التأثير Leverage على إسرائيل لتعدّل سياساتها وتقبل بحل الدولتين الذي يلاقي إجماعاً دولياً باستثناء إسرائيل. فإذا أرادت إسرائيل التطبيع مع السعودية، عليها أن تقرأ بين السطور وأن تكف عن القفز على المطلوب منها نحو الفلسطينيين. الرياض وضعت مبادرة واضحة للسلم والتعايش والتطبيع والازدهار. على إسرائيل أن تتقدّم بمبادرتها وألّا تضيّع الفرصة على نفسها.
لدى السعودية أيضاً قوة التأثير على الولايات المتحدة بالشق الديموقراطي كما بالشق الجمهوري فيها. رسالتها هذا الأسبوع إلى رجال ونساء الأعمال والسياسة كانت جليّة في مؤتمر "مبادرة مستقبل الاستثمار" FII بنسختها السابعة وعنوانها: إنّ السعودية لن تتوقف عن مسيرة النهضة، ومواكبة الحداثة، والتنمية المستدامة في ظل الذكاء الاصطناعي، ولعب دورها في نظام عالمي مستقر.
بكلام آخر، قالت الرياض عبر فعاليات مؤتمر FII بحضور 6700 من قادة الابتكار والأعمال والفكر وصنع القرار، إنّ مسيرة رؤية 2030 لولي العهد الأمير محمد بن سلمان ماضية الى الأمام ولن تتلكأ أمام أيّة تطورات ميدانية أو سياسية، سواء تعمّدت الطعن بها أو صدف وتزامنت معها. وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان قام بالمهام السياسية والديبلوماسية في نيويورك سوياً مع نظرائه وزراء خارجية مصر والأردن وفلسطين، في دعوة موحّدة لوقف النار، وفي انتقادات وإدانات ضرورية للإجراءات العقابية الإسرائيلية بحق أهل غزة، وفي إدانة كل استهداف لأي مدنيين سواء على أيادي "حماس" أو إسرائيل.
يبقى انّ التعاطف مع أهل غزة ومع الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي ليس جريمة تستحق العقاب من جامعات ومؤسسات فكرية غربية، كما يجري الآن، هذا ليس مجرد قصر نظر وتجاهل غبي لمواقف عربية واضحة ضدّ ارتكاب "حماس" مجزرة ضدّ المدنيين، وإنما هو مساهمة في تأجيج خطير يعمي عن ضرورة تشجيع القيادات على قرارات جريئة تحول دون الانزلاق إلى حروب سائبة. على الرأي العام في المعسكرين التحلّي ببعض الحكمة وعدم الانخراط بتطرفٍ عاطفي أو سياسي. فهذه لحظة دقيقة جداً في تاريخ الشرق الأوسط- لحظة تتطلّب الجرأة على صياغة وتشجيع القيادة الحكيمة والسياسات العادلة.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك