كتب ياسر هلال في "طاقة الشرق":
بعيداً عن طوفان التحليلات والتكهنات المبنية على فرضيات وتمنيات حول التداعيات الاقتصادية للحرب على فلسطين. هناك سؤالين كبيرين يحددان الإجابة وهما متى ستنتهي الحرب، وكيف ستنتهي.
وبعيداً عن توقعات الأخ ميشال حايك وهو الوحيد الذي يعرف الإجابة، فإن الدول المعنية أي إسرائيل بالوكالة الراسخة عن أميركا. وكتائب القسام بالوكالة الملتبسة عن إيران ومن ورائها روسيا، لا تملك إجابة واضحة ونهائية. فالتطورات «مفتوحة على كل الاحتمالات»، كما يقول السيد وكل السادة.
بغياب الإجابة على هذين السؤالين، فإن كل ما يكتب ويقال عن التداعيات الاقتصادية، لا يعدو كونه تمارين ذهنية وحسابية أو “تسالي بالأرقام”. فالحرب وتداعياتها ليست مجرد حساب “دولارات وسنتات”، كما جاء في تقرير لجريدة فايننشال تايمز..
ويبدو أن هناك سيناريوهين لتطورات الحرب وبالتالي لتداعياتها الاقتصادية وهما:
الأول: سيناريو لا غالب ولا مغلوب:
تنتهي الحرب كما انتهت الحروب السابقة. فتدعي إسرائيل زوراً بأنها انتصرت بالقضاء على قدرات حماس العسكرية. ويكون تدمير غزة، وقتل وجرح وتشريد عشرات الآف البشر مجرد أضرار جانبية collateral damage. وبالمقابل، تدعي كتائب القسام أنها انتصرت ولكن على طريقة «صحيح راحت غزة لكن بقيت حماس» ودون أن يجرؤ أحد على القول «يا ريت بقيت غزة …».
وينطلق هذا السيناريو من فرضية أن “غزوة 7 أكتوبر” هي تدبير سري وعلى أعلى المستويات بين القيادة الإيرانية (الحرس الثوري)، وقيادة كتائب القسام. بمعزل عن المستوى السياسي في إيران وفي حماس. وأنها كانت مصممة لتكون اقتحاماً محدوداً ومدروساً للحدود وأسر بعض الجنود. ولتشكل مجرد صفعة لإسرائيل، بهدف تحسين أوراق المفاوضات مع أميركا. ولكن لسبب « مجهول» قد يصبح معلوماً يوماً من الأيام، “فلتت الأمور” وتحولت الصفعة إلى نكبة لإسرائيل وأميركا تستدعي ذلك الرد الوحشي على الفلسطينيين. كما تستدعي ذلك الحشد غير المسبوق من الأساطيل الأميركية والغربية. وهذا السيناريو إذا تحقق يمثل هزيمة عسكرية وسياسية نكراء لإسرائيل ومن ورائها أميركا.
تداعيات كارثية على إسرائيل
إذا كان هذا السيناريو هزيمة على المستويين العسكري والسياسي لإسرائيل، فهو كارثي على المستوى الاقتصادي. لأنه سيؤدي عملياً إلى تقزيم اقتصاد الكيان الإسرائيلي، ليصبح “اقتصاد قاعدة عسكرية” يعتاش على المساعدات الأميركية.فهذة النهاية للحرب تعني عملياً انتصار الجناح الجهادي في حماس. وهذا الانتصار سيشجع توسع المقاومة والحركة الجهادية. الأمر الذي يؤدي ليس إلى تفاقم الخسائر والمشاكل البنيوية للاقتصاد الإسرائيلي، بل إلى زعزعة أهم أركان الكيان والاقتصاد، وهو الثقة بقدرة الجيش على حماية الأمن وحفظ الاستقرار.
وتجنباً للدخول في متاهة التحليلات والتوقعات للتداعيات الاقتصادية، نشير إلى بعض المعطيات المستقاة من تقرير لوزارة المالية الإسرائيلية. وهو تقرير يتسم بالتفاؤل لأنه ينطلق من فرضية عدم فتح جبهات جديدة أولاً. وثانياً حدوث تراجع كبير بالأعمال العسكرية لتقتصر على مناوشات في قطاع غزة. وثالثاً عودة جنود الاحتياط إلى أعمالهم قبل نهاية الشهر الحالي. وبناء على هذا السيناريو قدرت الوزارة أن الحرب ستكلف الخزينة حوالي 51 مليار دولار. وأعلن وزير المالية وهو بالمناسبة من غلاة اليمين و«حزب الاستيطان»، عن ارتفاع عجز الموازنة للعام الجاري من 1.5 إلى 4 في المئة ومن ثم إلى 5 في المئة في 2025. أما رئيس شعبة الموازنة في وزارة المالية فكشف أن الخسائر المحققة في الموازنة خلال الأسابيع الثلاثة الأولى للحرب بلغت 30 مليار دولار. وقال ان النفقات العسكرية المباشرة تبلغ 250 مليون دولار يومياً.
ومن بين الأرقام الرسمية ذات الدلالة، نشير إلى ان دائرة الإحصاء المركزية أظهرت أن نحو 51 في من المؤسسات خسرت أكثر من نصف الإيرادات في شهر أكتوبر مقارنة بذات الشهر خلال العام الماضي. في حين قدر تقرير لبنك “جي بي مورغان تشيس” الأميركي، إن الاقتصاد الإسرائيلي قد ينكمش بنسبة 11 في المئة على أساس سنوي، في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الجاري. وهو رقم مشابه لما حدث مع الإغلاق الشامل إبان جائحة كورونا.
ومن الخسائر المباشرة الثابتة، خلال الأسابيع الثلاثة الأولى فقط، نكتفي بالإشارة إلى اهمها وأكثرها دلالة. فقد تراجع قطاع الغاز بعد إغلاق حقل تمار، مع احتمال إغلاق بقية الحقول إذا توسعت الحرب. كما ضربت قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات والسياحة وتكنولوجيا المعلومات. وترافق ذلك مع إنهيار قيمة الشيكل واضطرار البنك المركزي إلى ضخ حوالي 45 مليار دولار لوقف أو تنظيم ترجعه. يضاف إلى ذلك خروج حوالي 750 ألف شخص من سوق العمل يمثلون نحو 18 في المئة من إجمالي القوى العاملة.
الثاني: سيناريو هزيمة حماس و«تيار الاستيطان»
تكون الحرب طويلة مع احتمال كبير لأن تتوسع. وتنتهي بغالب ومغلوب مؤكدين واضحين. فيكون الغالب هو الاعتدال الإسرائيلي والفلسطيني والعربي. ويكون المغلوب الأول هو التطرف الإسرائيلي ممثلا باليمين و«تيار الاستيطان» إذا صح التعبير. فتتم إعادة تكوين السلطة بإزاحة هذا اليمين الرافض لحل الدولتين والمؤيد للاستيطان وتهجير الفلسطينيين. والذي حكم إسرائيل منذ اغتيال اسحاق رابين في 1995. أما المغلوب الثاني فيكون الحركة الجهادية ممثلة بالجناح العسكري لحركة حماس. فتتم إعادة تكوين السلطة الفلسطينية بدونها ولكن بمشاركة الجناح السياسي لحركة حماس طبعاً.
وينطلق هذا السيناريو من فرضية أن هناك تحولاً جدياً في السياسة الخارجية الأميركية المتعلقة بالقضية الفلسطينية. يهدف هذا التحول إلى إيجاد حل دائم او شبه دائم للقضية الفلسطينية بإقامة الدول الفلسطينية. ويستند ذلك إلى حقيقة أن أميركا كانت تتمتع بنفوذ رئيسي في منطقة الشرق الأوسط. تحول إلى نفوذ كامل بعد حرب أوكرانيا وتراجع الدور الروسي. وبات الاستقرار يحقق مصالحها والحروب تحقق مصالح أعدائها. والحقيقة الثانية، أن اليمين الإسرائيلي فشل فشلاً ذريعاً في تنفيذ سياسته بإنهاء القضية الفلسطينية رغم الدعم الأميركي الكامل له. بل عجز عن حماية حدود إسرائيل وأمن المستوطنين. وبات وجوده في السلطة يهدد المصالح الكبرى لأميركا في المنطقة، وفي طليعة هذه المصالح تطبيع العلاقات العربية ـ الإسرائيلية وإطلاق مشاريع اقتصادية ضخمة، تضع حداً لتغلغل النفوذ الصيني من بوابة الاقتصاد والاستثمار.
تداعيات اقتصادية ثقيلة وقصيرة المدى
إذا صح هذا السيناريو، فإن المنطقة وليس إسرائيل فقط قد تشهد تغييرات جيوسياسية عميقة. أما التداعيات الاقتصادية فستكون ثقيلة الوطأة على المدى القصير، قبل بدء مرحلة إعادة الإعمار والازدهار على المدى المتوسط والطويل. وقد رسم تقرير البنك الدولي حول “الآثار المحتملة للصراع في الشرق الأوسط على المدى القريب” الصادر حديثاً، صورة قاتمة للتداعيات خاصة على الأمن الغذائي وأسعار النفط في ضوء احتمال إقفال مضيقي هرمز وباب المندب.
لكن تقتضي الحصافة التروي في الخوض في هذه التداعيات المستندة إلى فرضيات وتوقعات، خاصة وأن عوامل ومتغيرات جيوسياسية رئيسية قد تكون عرضة لتبدلات جذرية.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك