كتبت راغدة درغتم في "النهار العربي":
ماذا لو أصرت إسرائيل على سحق حركة حماس كلياً بأيّة كلفة كما تتعهد حكومة الحرب المتطرفة والمتعجرفة وضربت بعرض الحائط تحذير حماس بأنها ستقضي على الرهائن لديها ما لم تتراجع إسرائيل عن الوعد بإلغاء حماس عن الوجود؟ مَن "يبلف" bluff الآخر في توعّده وما هي مساحة المناورة وآفاق التسلّق نزولاً عن السلم؟ كلاهما يعتبر هذه الحرب وجودية ليس للفلسطينيين والإسرائيليين وإنما لحماس وبنيامين نتنياهو وحكومته. كلاهما في ورطة لأنه زج نفسه في زاوية المفاوضات المستحيلة بينهما لأن أهداف المفاوضات متضاربة كنقطة انطلاق. إسرائيل تريد من حماس الاستسلام وتسليم السلطة وتنحّي قياداتها لتغادر غزة أو تواجه الاغتيالات. حماس تريد من إسرائيل التراجع عن هذه الشروط وأن تقبل باستمرار حكمها في غزة مقابل تلميحات بأنها على استعداد للاعتراف بدولة إسرائيل وبتبني الاعتدال بدلاً من الراديكالية. الرهائن ذخيرة لربما تفجّر حرباً أكبر ولعلها تكون ذخيرة تعبئة لصفقة وقف النار. هي ذي اليوم المعادلة الصعبة الآنية بأبعادها المصيرية.
الى الذين يخوّنون ويعيّبون ولا يميّزون بين الشعب الفلسطيني وقياداته التي تكن العداء والكراهية لبعضها، اليهم هذه الكلمات الواضحة ليكفوا عن التشويه والتحريض والمزايدات البغيضة: ان الحرب الإسرائيلية على غزة همجية وإبادية وحقيرة في استهدافها المدنيين سيّما الأطفال وهي تنتهك القوانين الدولية وقواعد الحرب ويجب أن يقوم الخبراء بتحضير ملف علمي موثّق لطرحه في المحاكم الدولية بطلب تصنيف الإجراءات الإسرائيلية ضد المدنيين جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. لا تكفي مشاعر الغضب في المظاهرات ولا مهاترات جمعيات حقوق الإنسان، وبالتأكيد كفى استهلاك الجهلاء والمدّعين لبدعة "سوشيال ميديا" ليتظاهروا بالوطنية والتعاطف فيما معظمهم أغبياء يتاجرون بآلام الفلسطينيين ومعاناتهم التاريخية وجرحهم المفتوح ومواجهتهم أكثر الحروب الحديثة همجية ووحشية ووقاحة العنجهية.
والى الذين يدافعون عما تقوم به إسرائيل انتقاماً من استهداف حماس للمدنيين في 7 تشرين الأول( أكتوبر) واحتجازهم الرهائن وتصنيفهم حماس منظمة إرهابية كما داعش والقاعدة، تذكروا ان إدانة ما قامت به حماس جاءت على لسان قادة عرب وليس فقط ناس عاديين رفضوا استهداف شباب وشابات في حفل غنائي. أما تبرير الانتقام كما قامت به إسرائيل فإنه خالٍ من الضمير ومن الإنسانية، بل انه هو الذي سيخلق المنظمات الإرهابية على نسق القاعدة وداعش كرد فعل على مباركة البطش الإسرائيلي بالمدنيين وخصوصاً الأطفال. قصر النظر لن يفيد لاحقاً لأن مثل ذلك الإرهاب لن يبقى محلياً بل سيكون عالمياً. فكفى عنصرية وتهم اللاسامية والتسلّط على قرارات الحكومات الغربية لمنعها من الضغط على حكومة إسرائيل لتعدِّل مفاهيمها وسياساتها وتقبل بوقف النار كي تتوفر فسحة إعادة النظر ودراسة الخيارات الصائبة.
الصعوبات التي تواجهها إدارة الرئيس جو بايدن في إقناع إسرائيل بقليل من الحكمة تفضح الوهن الأميركي الجذري في العلاقة مع إسرائيل والذي يؤذي المصالح الأميركية. لا يجوز أن تستمر هذه الإدارة في تعرية نفسها سياسياً وأخلاقياً بمعارضتها قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة الداعية الى وقف النار.
مشروع القرار الذي قدمته الإمارات ومصر في مجلس الأمن يهدف لتحسين الوضع الإنساني ويدعو الى وقف الأعمال العدائية من الطرفين في غزة ويحث على السماح بإدخال المساعدات الى القطاع المحاصر بشكل فعّال مع وضع آلية مراقبة دولية تخضع للأمم المتحدة. لا مبرر لمعارضة أو تردد الإدارة الأميركية في السماح لمجلس الأمن بتبني قرار كهذا. كفى نزولاً عند ما تفرضه إسرائيل كأمر واقع. وكفى اعتقاداً أن التعبير عن الخلاف العلني بين الرئيس بايدن وفريقه من جهة وبين بنيامين نتنياهو وصقور حكومته الحرب كافٍ.
إذا كان بايدن وفريقه يعتقدون أن مواجهة نتنياهو وصقوره سيكلفهم في الانتخابات الرئاسية، فإن رضوخهم للإملاءات الإسرائيلية سيكلفهم أكثر بل سيجرّ الولايات المتحدة الى حرب لا تريدها إذا فتحت إسرائيل جبهة حرب ضد لبنان تستدرج إيران اليها. هذا أمر يفهمه جيداً فريق بايدن ونجح حتى الآن في احتوائه. لكن عِنَاد وتعنّت إسرائيل يجب أن يكون موضع شكوك جديّة وحزم واضح ضد الخطط والمطبات الإسرائيلية في لبنان كما في غزة.
فريق بايدن يعمل بكثافة على ترتيبات لقطاع غزة ولقد أدت مواقفه الى تراجع نتنياهو بعض الشيء عن مواقف عشوائية وخيالية وخطيرة. اليوم، تفيد المعلومات ان حماس رفضت الهدنة ووقف النار ما لم تتراجع إسرائيل والولايات المتحدة عن تحقيق هدف تدمير وسحق القيادة والبنية التحتية لحماس. الورقة التي تشهرها حماس في وجه إسرائيل والولايات المتحدة لاقناعهما بتعديل مواقفهما هي ورقة الرهائن.
لا منطق في موقف إدارة بايدن بأن على حماس إطلاق سراح جميع الرهائن، ثم بعد ذلك البحث في الحلول الديبلوماسية سيّما وأن المواقف الإسرائيلية والأميركية تستبعد حماس عن ترتيبات ما يسمى بـ"اليوم التالي". حماس لن تنتحر سياسياً ووجودياً ولن تقوم بإلغاء نفسها بنفسها. لذلك، على إدارة بايدن أن تضغط على إسرائيل لتتخلّى عن هدف وسياسة تدمير وسحق حماس لأن ذلك قد يؤدّي الى استخدام حماس ورقة عدم إطلاق سراح الرهائن بل حرق تلك الورقة إذا أصرّت إسرائيل على حرق غزة بمواطنيها ومدنييها وهي في صدد تنفيذ استراتيجية سحق حماس.
المنطق هو في الضغط على إسرائيل لوقف النار والقيام بجردة جديدة للواقع على الأرض وبتفكير جديد للوضع في غزة وفي الشرق الأوسط برمته. رفض إسرائيل حل الدولتين أمر خطير للغاية مفاده أن إسرائيل لا تريد التعايش بسلام مع الفلسطينيين وهي ترفض المبادرة العربية- الإسلامية للاعتراف بها والتطبيع معها مقابل موافقتها على حل الدولتين.
القيادة السياسية لحماس ليست على الصفحة ذاتها كما القيادة العسكرية إذ تبرز مؤشرات ورسائل مفادها أن القيادة السياسية على استعداد للانضمام الى منظمة التحرير الفلسطينية كي تبقى على قيد الحياة ويكون لها دور في المستقبل الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية. بكلام آخر، ان الشق السياسي لحماس يريد أن يواجه حرب الإلغاء الإسرائيلية له بتعديل عقيدته وسياساته لإفشال الإلغاء ولتحقيق وقف النار والمجازر التي فتكت بعشرين ألف فلسطيني حتى الآن. الجناح العسكري لا يوافق، حسبما تفيد المؤشرات، أقلّه حتى الآن.
منظمة التحرير الفلسطينية لا يمكن لها أن تستفرد بالحكم في الضفة والقطاع وأن تنتظر الى ما بعد انتهاء الحرب والاحتلال الإسرائيلي لتطرح برنامجها الإصلاحي. عليها أن تكون منفتحة الآن على التحاق حماس والجهاد الإسلامي في صفوفها كوسيلة ضرورية لتحقيق تلازم القطاع والضفة في المشروع الفلسطيني، بلا شروط وقيود، لأن التحديات مصيرية، وهذا ليس وقت المزايدات والانقسامات المعهودة. حان وقت النضج الفلسطيني والكف عن هدر الفرص لوقف المناحرات والانقسامات.
الكلام عن الاستعداد لحكومة جديدة بعد أن ينتهي الوضع في غزة يفيد بأن هناك تهرّباَ من الاستحقاقات. السلطة الفلسطينية شيء، ومنظمة التحرير الفلسطينية شيء آخر. هناك انعدام ثقة بالاثنين، ومن الضروري أن تتوقف القيادة الفلسطينية في السلطة عن التحدّث عن التجدّد الضروري وتحديث السلطة إنما بعد انتهاء الوضع الراهن في غزة. واجباتها الإقدام وليس الانتظار. فلقد منحتها قمة الرياض الثقة لكنها لم توافق على استمرارها بأنماطها التقليدية من لاءاتها الى مقاطعاتها الى رفضها إدخال الدم الجديد في صفوفها. عليها أن تدرك أن سمعتها عربياً وعالمياً تحتاج الى الإصلاح والتجديد بمؤسساتها وقياداتها، وأن عليها أن تجرأ على التغيير بصدق وبجديّة وأن تعيد بناء نفسها وتوسيع آفاقها.
العداء بين أفراد داخل السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس وبين أفراد كانوا في السلطة أو على هامشها عداء حان وقت معالجته. هناك أطروحات ورؤى يجب النظر المعمّق فيها وأخذها في الاعتبار حتى وان لم يكن بحذافيرها. "خطة سلام غزة" التي اقترحها رئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فياض تتضمن إصلاحات تسمح لمنظمة التحرير بحكم القطاع وهي نُشِرَت في "فورين أفيرز" ولفتت أنظار قيادات أميركية وأوروبية وعربية.
كذلك تقدم رئيس الأمن السابق للسلطة الفلسطينية محمد دحلان برؤيته التي تضمنت فترة انتقالية بإدارة تكنوقراطية لسنتين في غزة والضفة الغربية قال إنها تلقى ترحيباً عربياً. هذه الخطة الأرجح لن تعجب السلطة الفلسطينية إنما فيها أفكار يمكن الاستفادة منها.
ليس سلام فياض ولا محمد دحلان وحدهما في طرح الأفكار أو كمرشح لقيادة مستقبلية. هناك من يحلو له وصف مروان البرغوثي زعيم التنظيم في حركة فتح بأنه "مانديلا الفلسطيني" في مبالغة واضحة. الأهم أن هناك جيلاً من الشباب الجاهز للأفكار والخطط والرؤى التجددية الذين يجب على القيادة الناضجة في السن أن تجمعهم للتعرف الى قدراتهم وإمكانيات مشاركتهم في القيادة المستقبلية.
فلسطين مسؤولية فلسطينية قبل أن تكون مسؤولية عربية أو دولية. الفلسطينيون هم أصحاب القرار ولهم حق تقرير المصير. الدعم العربي والدولي للحقوق المشروعة أساسي، ورفض الفتك الإسرائيلي بالمدنيين الفلسطينيين واجب أخلاقي. أما المهاترات والمزايدات والتخوين فهذه سخافة الجهل والغباء لا حاجة أبداً للفلسطينيين اليها لزيادة الإهانة الى الجرح العميق.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك