كتبت كريستين حبيب في "الشرق الأوسط":
قبل 9 سنوات على مرورها في «شوارع القدس العتيقة» ولقائها بـ«الناس الناطرين»، غنّت فيروز فلسطين. فالأعمال الرحبانيّة المكرّسة لـ«الدار السليبة» ولأهلها، تعود إلى عام 1955. كان عاصي ومنصور الرحباني في بداية الطريق، وصوت «السيّدة» يشقّ دربه إلى المجد، يوم دُعي الثلاثيّ إلى القاهرة لتسجيل مجموعة من الأعمال الغنائية الخاصة بفلسطين.
يفصّل الصحافي والباحث محمود الزيباوي، المتمرّس في الأرشيف الرحبانيّ، مراحل تلك العلاقة بين الأغنية الرحبانيّة وفلسطين، التي تمتدّ سبعة عقود. وفق الرواية، فإنّ البداية كانت مع مغنّاة «راجعون» التي سُجّلت في إذاعة «صوت العرب» في مصر بدعوة من مديرها أحمد سعيد. الأغنية التي ألّفها الأخوان رحباني، شارك في نسختها الأولى الفنان المصري كارم محمود، أما نسختها الثانية والأكثر تداولاً فصدرت ضمن أسطوانة تحمل عنوانها، كما خضع نصّها لبعض التعديلات.
«غرباء»
قبل أن يغوص الزيباوي في تفصيل الأرشيف الرحبانيّ الفلسطينيّ، يلفت لـ«الشرق الأوسط» إلى أنّ «أحداً لم يغنِّ فلسطين كفيروز، وأحداً لم يحوّلها أغنيةً كما فعل الأخوان رحباني». والدليل على ذلك، أنه كلّما اشتعلت أرض فلسطين من جديد، طار صوت فيروز و«زوبع بالضماير».
بالتزامن مع الأحداث الدامية في غزة عام 1955 ومواجهة الفلسطينيين مصير التهجير، سجّلت فيروز «غرباء» في القاهرة، من شعر هارون هاشم رشيد وألحان الأخوين رحباني. يقول الزيباوي إنّ «المغنّاة دخلت النسيان، مثلها مثل أعمال كثيرة لا تُعدّ ولا تحصى». غير أنّ كلماتها تنطبق على ذاك الزمان وهذا، حيث توجّهت فيروز إلى أبيها: «سألتك أمس عن أمّي التي ذهبت ولم ترجع (...) سألتك عن أخي أحمد وكدت تقول لي قد مات يا ليلى قد استُشهد».
«سنرجع يوماً»
من بين الأغاني التي ألّفها الأخوان رحباني لفلسطين ما دخل طيّ النسيان، على ما يقول الزيباوي، ومنها ما احتاج عقداً من الزمن لينتشر ويتحوّل نشيداً كما هي حال «سنرجع يوماً». ألّفها الرحبانيّان عام 1956، لحناً وشعراً. وتؤكّد المراجع أنّ القصيدة رحبانيّة بامتياز، رغم اللغط الذي أُثير حولها إذ قيل إنّ كاتبها هو هارون رشيد.
«سنرجع يوماً إلى حيّنا ونغرق في دافئاتِ المُنى
سنرجع مهما يمرّ الزمان وتنأى المسافات ما بيننا»
مطلع الأغنية، كما باقي كلامها، لا يأتي على ذكر فلسطين ويمكن بالتالي أن تنطبق على أي مغترب أصابه الحنين إلى وطنه. لكن غداة «نكسة 1967»، تجنّد الإعلام العربي واللبناني لنُصرة الأراضي المحتلّة. ويروي محمود الزيباوي كيف أن استوديوهات الإذاعة اللبنانية غصّت آنذاك بالفنانين اللبنانيين، الذين أراد كلٌّ منهم أن يهديَ فلسطين أغنيةً أو نشيداً. من بين تلك الأعمال، عادت «سنرجع يوماً» لتبرز من جديد، مع ظهور فيروز بالزيّ الفلسطيني على شاشة التلفزيون صادحةً: «سنرجعُ خبّرَني العندليب غداةَ التقينا على مُنحنى». ومنذ تلك السنة الفاصلة في التاريخ العربيّ، ارتبطت «سنرجع يوماً» بالفلسطينيين وبحلم العودة.
«مزهريّة» القدس
تَحقّق حلم فيروز بأن تطأ أرضَ فلسطين عام 1964. رنّمت في كنيسة القيامة بمناسبة زيارة بابا روما حينذاك بولس السادس. من تلك الزيارة التاريخيّة، بقيت صورة لها أمام فندق «الهوسبيس» في القدس. أما في بال السيّدة والأخوَين، فعلقت مشاهد استحالت أغنية حملت عنوان «القدس العتيقة» (مرّيت بالشوارع).
«حكينا سوا الخبريّة وعطيوني مزهريّة
قالولي هيدي هديّة من الناس الناطرين»
يضع الزيباوي قصة «المزهريّة» في إطار الروايات التي رافقت تلك الزيارة: «تقول الأخبار إنّ أهل المدينة المقدّسة أهدوا إليها مزهريّة». وتضيف سرديّاتٌ أخرى أنّ فيروز والأخوين جالوا فعلاً في «شوارع القدس العتيقة»، حيث أهدتها إحدى السيّدات مزهريّة من بيتها. كما تحدّثت فيروز إلى الناس هناك، الذين اشتكوا إليها من ظروفهم الصعبة في ظلّ الاحتلال، ما أثّر بها كثيراً وأوحى بالأغنية لعاصي ومنصور.
الزيارة الرحبانيّة إلى فلسطين عام 1964 ألهمت الأخوين مزيداً من الأعمال المرتبطة بالقضيّة الفلسطينيّة. وبالتعاون مع صديقهما الشاعر اللبناني سعيد عقل، أصدرا «أجراس العودة» (سيفٌ فليُشهر) عام 1966، والتي سرعان ما تحوّلت نشيداً بعد أن غنّتها فيروز على مسرح معرض دمشق الدولي صيف تلك السنة قبل أن تسجّلها في الاستوديو، وفق ما يروي الزيباوي.
«زهرة المدائن»
أتت حرب «الأيّام الستّة» وهزيمة 1967 جرّاء سيطرة الاحتلال على القدس الشرقيّة، لتوحيَ بمزيد من الأعمال الفنّية. توّج الثلاثيّ الرحبانيّ التحيّة المتواصلة لفلسطين منذ 1955، بـ«زهرة المدائن». ثماني دقائق هي بمثابة صلاة ونشيد في آنٍ معاً، كتبها ولحّنها الأخوان لتتلوها حنجرة فيروز.
يروي محمود الزيباوي أنه «في 17 أغسطس (آب) 1967، افتتح الأخوان رحباني مهرجان الأرز في لبنان بقصيدة مهداة إلى القدس عنوانها (زهرة المدائن)»، مع العلم بأن الاسم القديم لمدينة القدس هو «زهرة المدائن». ويتابع أن الأغنية حققت نجاحاً كبيراً، وبُثّت مصوّرةً على شاشات السينما في وصلة مستقلّة من إخراج هنري بركات قبل عرض فيلم «سفر برلك».
مفتاح القدس
نبتت «زهرة المدائن» في كل حديقة وردّدتها الحناجر العربيّة مع فيروز. فما كان من أهل فلسطين إلّا أن ردّوا التحيّة عام 1968، ويذكر الزيباوي هنا كيف أنّ «نائبَي القدس إميل غوري ومحي الدين الحسيني حملا مفتاح القدس إلى بيروت، وسلّماه إلى فيروز مع صينيّة مصنوعة من الصدف تمثّل المسجد الأقصى».
في احتفالٍ تاريخيّ، تسلّمت فيروز مفتاح القدس ليتحقّق ما جاء في الأغنية؛ «لن يُقفَل بابُ مدينتنا فأنا ذاهبةٌ لأصلّي، سأدقّ على الأبواب وسأفتحها الأبواب».
لفلسطين وجرحها العميق، غنّت فيروز كذلك «بيسان»، و«يافا»، و«أحترف الحزن والانتظار»، و«جسر العودة»، وغيرها من الأغاني المعروفة وتلك الأقلّ انتشاراً. ومع كل أغنية من بينها، ثبت قول منصور الرحباني إنّ «الأناشيد الحماسيّة التي كانت تُذاع قبل النكسة صوّرتنا شعباً متوحّشاً يحب القتل والذبح، بينما نحن شعب له حضارة كبيرة. على الأغنية أن تكون إنسانيّة، لأنّ الإنسانية وحدها توصل إلى الحقّ. الأغنية تدخل كل بيت من دون استئذان، لذلك علينا أن نُحسن استغلال هذه الإمكانيّة وهذه المرونة».
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك