اتّصل بي صديقي منذ أسابيع، وكانت أزمة كورونا في محافظة الشمال في بداياتها، ليسلّمني شجرة حور صغيرة أغرسها في حديقتي في بشرّي. ركنت سيّارتي قرب سيارته، ومن دون أن نتصافح بحرارة كعادتنا، فتحت باب السيارة ليضع "الحورة الصغيرة" داخلها، وقلت له بصوت عميق غير واضح من خلف كمّامتي "آمل أن نلتقي من دون كمامات ونتصافح ونمشي مجدداً في وادي قاديشا مع جميع الأصدقاء". تودّعنا بنظرات بعيدة وذهب كلّ منا بطريقه لنبدأ حجرنا المنزلي الاختياري.
وأنا في طريقي الى منزلي، طلبت من صديقتي أن تطلّ من على الشرفة، فكان اللقاء الجاف... لا عناق... لا نظرات... لا ابتسامات حارة... لا "شو هالجمال"... لا "شو هالتياب"... لا شيء سوى "طلّ القمر"... و"كلمات ليست كالكلمات" التي تشبهنا.
شكراً كورونا، لم أكن أعلم أنّني أحب أصدقائي الى درجة الاشتياق المجنون لهم! لم أكن أعلم أنّني سأشتاق لأحاديثنا التافهة أيضاً، وأوقات "زعلنا" وغضبنا وتوبيخنا لبعضنا وسهراتنا وقهوتنا في منطقة "بنحلي" والبيكنيك في حدث الجبة وتنورين والتبضع في أسواق طرابلس الشعبية!
لم أكن أعلم أنّني سأشعر بوجع كبير عندما سألتقي بشقيقتي في جبيل وألقي عليها التحية كغريبين لم يعانقا بعضهما البعض بتاتاً. لم أكن أعلم أنّني، ومتى سأنظر في عينيها ستحزن عيناي جداً لأنّ وجهها مختبئ خلف كمامة ويديها خلف ظهرها وهي تحرص على ألّا تضعفا فتفلتا منها وتجدا طريقهما كالعادة الى معانقتي بحرارة كبيرة.
لم أكن أعلم أنّني سأتوق لأن أرى وجه شقيقتي الأخرى، والتي تعيش على بعد شارعين من منزلي! وجهها المبتسم، وجه بناتها اللواتي طالما كُنّ عن يميني ويساري في عطلة كل أسبوع فكنّا "عصابة مجنونة" نرقص ونغنّي ونضحك كثيراً على أخبار الجارة الغاضبة والجار الساذج ونتبادل أحاديث الحب والعشق و"عزّ" المراهقة وجنونها.
لم أكن أعلم أنّ حياتي كانت ناقصة الى هذه الدرجة من دونهم... وأي دور يلعبه الواتساب يا ترى وأنا ممنوع من تقبيل ومعانقة ولمس من أحبّ. حتّى شقيقي الذي يسكن في الطابق الأعلى، باتت زياراته رسمية ومحدودة وحديثنا أصبح "غسّل، طهّر، انتبه عالولاد".
لم أكن أعلم أنّ والدي الستيني هو شغلي الشاغل، ووالدتي الستينية أيضاً همّي اليومي. فها هي الأدوار انقلبت، وأصبحت أنا من يخاف بشدّة عليهما ويسألهما، أين كنتما، مع من تكلّمتما، هل صافحتما أحداً، وإن خرجتما للضرورة عودا قبل السابعة أرجوكما... ونصيحة منّي "خلّيكن بالبيت"!
وأنا أنظر الى حديقتي اليوم وزهر الربيع ينبئني بسحر قادم، شعرت بحسرة في قلبي... ما للحدائق من معنى إن بقيت خالية من صوت أهلي وأصدقائي؟ وهل يا ترى، سيأتي يوم يرى فيه صديقي أنّ الحورة الصغيرة أصبحت حورة كبيرة تظلّل الحديقة؟
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك