كتب علي فاعور في "اللواء":
في تطور سريع ومثير للقلق، فقد صنّف برنامج الأغذية العالمي لبنان كواحدة بين 20 بؤرة جوع ساخنة في العالم، والتي تحتاج لمساعدة طارئة لمعالجة انعدام الأمن الغذائي. كما أصدرت منظمة الأغذية والزراعة وبرنامج الأغذية العالمي تحذيرات مبكرة بشأن انعدام الأمن الغذائي الحاد في لبنان عام 2023، وبحسب التقرير فان انعدام الأمن الغذائي الحاد في البلاد يرجع إلى الأزمة الاقتصادية المستمرة وعدم الاستقرار السياسي.
بالعودة الى بداية الأزمة الاقتصادية قبل ثلاث سنوات، حيث شهد لبنان عام 2020، أولى «احتجاجات الجوع»، وتوقف العديد منهم عن شراء اللحوم والفواكه والخضروات، كما حذّرت «هيومن رايتس ووتش» والبنك الدولي، من أن أكثر من نصف الأسر اللبنانية قد لا تكون قادرة على شراء الطعام بحلول نهاية العام.
وفي 20 أيار 2020، نشر رئيس الحكومة اللبنانية السابق حسان دياب مقالاً في صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، داعياً المجتمع الدولي إلى تنسيق الاستجابة لسياسات الأمن الغذائي لوقف خطر الجوع الذي يهدّد اللبنانيين، ومحذّراً من مخاطر هجرة اللاجئين الى أوروبا، حيث «يتعيّن على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إنشاء صندوق طوارئ مخصص لمساعدة الشرق الأوسط في تجنّب أزمة غذائية حادّة؛ وإلّا فإن المجاعة قد تؤدي إلى تدفق هجرة جديدة إلى أوروبا وزيادة زعزعة استقرار المنطقة»...
وفي 29 تموز 2020، حذّرت منظمة «أنقذوا الأطفال» في تقرير لها، من أن نحو مليون نسمة في منطقة بيروت لا يملكون المال الكافي لتأمين الطعام، أكثر من نصفهم من الأطفال المهدّدين بالجوع وأنه يوجد: «في بيروت الكبرى 910 آلاف شخص، بينهم 564 ألف طفل، لا يملكون المال الكافي لشراء احتياجاتهم الرئيسية»..
لقد أضافت أزمة الوجود السوري أعباء ثقيلة أدّت الى ارتفاع مستويات الفقر وانعدام الأمن الغذائي لدى المجتمعات المضيفة واللاجئين على حد سواء.. كما ان ارتفاع أسعار السلع الأساسية والمواد الخام، كان له تأثير كارثي على كل من المواطنين اللبنانيين واللاجئين السوريين الذين يعيشون هناك. وهذا ما أدّى الى تفكك شبكات الأمان الاجتماعي، ثم ارتفاع معدلات التضخم وغلاء المعيشة وتراجع القدرة الشرائية نتيجة انهيار العملة الوطنية التي خسرت 99 في المائة من قيمتها في السوق غير الرسمية، ما أدّى الى انتشار الفقر على نطاق واسع ليشمل أكثر من 90 في المائة من السكان، حيث بات من المستحيل تقريباً على الفقراء، توفير الطعام أو شراء الضروريات الأساسية الأخرى.
وفي عام 2022، فقد جاء لبنان في المرتبة الأولى عالمياً على مؤشر البنك الدولي بالنسبة لتضخم أسعار الغذاء، متقدماً على زيمبابوي التي جاءت في المرتبة الثانية، وفنزويلا في المركز الثالث..
مما سرّع وتيرة هجرة الشباب من الجامعيين والاطباء والمهندسين وأصحاب المهارات العالية، وهي تشكّل خسائر جسيمة تقدّر بمليارات الدولارات.
اختلال التوازن: أعداد اللاجئين والنازحين تفوق أعداد اللبنانيين
كشف وزير الداخلية بسام المولوي في لقاء إعلامي (كانون الثاني 2023)، إلى أنّ نصف سكان لبنان أصبحوا سوريين، وأنّه في ظل «الانقطاع الكامل للتيار الكهربائي وغياب الاستشفاء والغذاء... نحن مضطرون لتأمين كلّ هذه الأمور للسجون، فلا نستطيع السماح بانطفاء الكهرباء ولا بغياب الغذاء عن السجون، وهذه معاناة حقيقية تتحمّلها وزارة الداخلية من خارج مهماتها»، لافتاً إلى أن أكثر من نصف السجناء القصّار سوريو الجنسية، وثلث السجناء البالغين سوريون أيضاً، بالإضافة إلى جنسيات أخرى..
واستناداً الى مصادر أمنية رسمية، فقد أمكن جمع المعطيات الاحصائية حول أعداد المقيمين في لبنان من العرب والأجانب وفق الإقامات الصالحة وغير الصالحة (أي التي لم يجدّد أصحابها إقاماتهم رسمياً)، وحتى أيلول 2017، فقد تم إحصاء دخول 1,800,000 نازح سوري وفلسطيني دخلوا شرعياً الى لبنان عبر المعابر الحدودية.
ثم ارتفع هذا العدد ليبلغ عام 2022، نحو مليونين وثمانين ألف نازح مسجّل، يضاف إليهم نحو 450 ألف عامل من النازحين السوريين ممن كانوا يعملون في مناطق لبنانية مختلفة قبل الأحداث السورية...
وهذا لا يشمل بطبيعة الحال النزوح السوري أو الفلسطيني أو العراقي، أو الداخلين خلسة والمقيمين من دون إقامات، بحيث أن 55 في المئة منهم يقيمون في شقق ومنازل و15 في المئة في مخيّمات، والبقية موزعون في مواقع عمل ومبان مختلفة...
وبينما تتضارب التقديرات حول أعداد المنتشرين على الأراضي اللبنانية من غير اللبنانيين، وفي غياب الأرقام الرسمية، يمكن حتى نهاية عام 2022، تقدير مجمل عدد النازحين السوريين المتواجدين على الأراضي اللبنانية بنحو ثلاثة ملايين نازح (مع أطفالهم من المولودين في لبنان)، يضاف إليهم أكثر من 450 ألف فلسطيني، علماً بأن وكالة «أونروا» تقدّر فقط عدد الفلسطينيين المسجلين في لبنان بـ 449,957 لاجئاً، مسجلين رسميا حتى عام 2017، تضاف إليهم أعداد اللاجئين العراقيين وغيرهم من العمال العرب والأجانب، من الداخلين خلسة والمقيمين من دون إقامات، فضلا عن تزايد نسب الولادات المرتفعة والتي لا يصار الى تسجيلها رسميا، حيث يتكاثر عدد المقيمين من عديمي الجنسية، والذين ترتفع أعدادهم سنوياً ما يضاعف من حجم الأزمة بعد مضي قرابة 12 سنة.. (الخريطة المرفقة)...
هذا ما يجعل أرقام المهاجرين واللاجئين والنازحين المقيمين من غير اللبنانيين، تبلغ أكثر من ثلاثة ملايين ونصف، وهذا الرقم يكاد يوازي عدد اللبنانيين المقيمين في مختلف المناطق اللبنانية. ولو أخذنا بالاعتبار حركة النزوح الجماعي وتزايد موجات الهجرة اللبنانية وتناقص عدد اللبنانيين المستمر، مما سيؤدي خلال السنوات القليلة القادمة الى اختلال التوازن داخل المجتمع اللبناني..
تزايد التوترات مع النازحين ونقص الخدمات العامة
بحسب التقرير الصادر عن المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين كانون الثاني عام 2020، و«بعد مرور نحو ثماني سنوات على الأزمة السورية، يستضيف لبنان أكبر عدد من اللاجئين لكل فرد في العالم»...
أما اليوم وبعد أكثر من 12 سنة، لا يزال لبنان يستضيف أكبر عدد من اللاجئين مقارنة بعدد سكانه ومساحة أرضه، فقد تزايدت تدفقات المهاجرين السوريين، خصوصاً خلال السنوات الثلاث الماضية، وهي تضم أعداد كبيرة من المهاجرين الشباب الباحثين عن فرص العيش في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها سوريا..
ما أثّر سلباً على مختلف جوانب حياة اللبنانيين، بما في ذلك التركيبة السكانية الهشّة المكوّنة من 18 طائفة دينية، وطبيعة التنوّع الديموغرافي والمذهبي.. ثم تراجع الاقتصاد والأزمة المالية والنقدية، واستنفاد الخدمات الاجتماعية، والصحية والبيئية، لا سيّما ما يتعلق بنقص المياه وانتشار التلوّث والأمراض، وتعقيد السياسة، وتراجع الأمن مع تزايد التوترات بين النازحين والمجتمعات المضيفة..
فضلاً عن تدهور حياة النازحين السوريين أنفسهم بسبب نقص التمويل ومبادرات البرامج غير المستدامة.. مما أضعف المحركات الرئيسية للاقتصاد، مثل التجارة والمصارف والسياحة، وقلّل من فرص العمل وأدّى الى انتشار البطالة على نطاق واسع.
وبحسب ما أكد وزير المهجرين عصام شرف الدين (تموز 2023)، المكلّف من الحكومة بإدارة ملف النازحين، يحتاج «النازحون» يومياً إلى «500 ألف ربطة خبز و5 ملايين غالون ماء، وبنى تحتية من ناحية الصرف الصحي والمياه، واستهلاك الكهرباء... وغيرها الكثير»، مؤكداً أن النزوح السوري «كلّف لبنان 30 مليار دولار على مدى 11 سنة».
الصراع على لقمة العيش.. وفقراء يستضيفون فقراء
يتبيّن من توزيعات النازحين السوريين حسب مكان الإقامة في لبنان، ان نحو 86 في المائة منهم يعيشون داخل الأحياء الفقيرة في المجتمعات المضيفة، حيث يقيم غالبية اللبنانيين المهمّشين.. ما أدّى الى تفاقم أزمة النفايات وانتشار المكبّات العشوائية ثم تلوّث حوض نهر الليطاني والقرعون، نتيجة تضاعف عدد سكان بعض البلدات في البقاع الغربي، وبخاصة في مناطق شتورة، قب إلياس، وصولاً إلى تعلبايا وبر إلياس، وحتى مجدل عنجر، وجب جنين ثم قرى غزة، الخيارة، حوش الحريمة... وكذلك في مناطق البقاع الشمالي حتى بلدة عرسال التي تشهد أحداث أمنية متكررة في محيط مخيّمات اللاجئين، فهي تستضيف ضعفي عدد سكانها من النازحين السوريين..
وهذا يتطلب تطوير «المطامر» الصحية وتأهيل معامل فرز النفايات، ثم تأمين التمويل اللازم وتعديل القانون لتمكين البلديات من جباية الرسوم، بطريقة تغطي كلفة جمع النفايات ونقلها ومعالجتها، وبمشاركة النازحين في تحمّل نفقات الإقامة والصرف الصحي واستهلاك المياه، وبمساعدة المنظمات الدولية لتطوير البنية التحتية، وبخاصة بالنسبة لمعالجة النفايات..
في مواجهة هذا الوضع، تزداد حدّة التوترات والمنافسة مع السكان المحليين في مراكز البحث عن الوظائف لضيق فرص العمل، بينما تبرز المعاناة في مجال الاقتصاد الهامشي أو غير المنظّم، حيث تنخفض الأجور وترتفع معدلات البطالة، كما أن أكثر من ثلث الرجال بين النازحين السوريين عاطلون عن العمل، في حين أن متوسط رواتب أولئك العاملين منهم، تمثل 40 بالمائة فقط من الحد الأدنى للأجور، وتبدو الأوضاع أسوأ بالنسبة لعمل النساء والأطفال، ناهيك عن الاستغلال والإساءة.
المنافسة في سوق العمل والبطالة
بلغت نسبة البطالة في لبنان عام 2012 نحو 27 في المئة، وهي قد باتت تزيد على 37 في المائة اليوم، حيث يعتبر لبنان الدولة الأولى في العالم من حيث نسبة البطالة، والتي باتت تزيد على 65 في المائة لدى فئة الشباب، ممن تبلغ أعمارهم بين 20 و30 سنة، حيث يوجد أكثر من 650 ألف لبناني عاطل عن العمل. بينما يعمل في قطاعِ البناءِ والبُنى التحتيّةِ والزراعة قرابة مليون عامل سوري..
تساعد هذه العوامل مجتمعة في توضيح عوامل التوتر المتصاعد في البحث عن سبل العيش والصراع على البقاء بالنسبة للمجتمعات المضيفة التي استنفدت مواردها بالكامل، وباتت تتعامل مع النازحين السوريين بمثابة منافسين اقتصاديين، ويمثلون عبئاً على الخدمات الصحية والاجتماعية. مما زاد من تأجيج التوتر في العلاقات، كما أدّت المواجهات والأحداث الأمنية المتنقلة في بلدات الشمال والبقاع، وضواحي بيروت، إلى اعتبار مخيّمات اللاجئين «ملاذاً للهاربين من الأمن»، والمقيمين بطرق غير شرعية.
من ضيوف إلى المطالبة بالرحيل والمغادرة
نتيجة الإقامة الطويلة والتحوّل في طرق التعامل، لم يعد يُنظر إلى اللاجئين على أنهم ضيوف، بل كمنافسين على لقمة العيش، كما انهم يتلقّون المساعدات من المنظمات الدولية.. وهذا ما أدّى الى تزايد الصراعات وارتفاع معدلات الجريمة والأعمال المخلّة بالأمن، بحيث أن تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، والتهميش والمنافسة الواسعة، قد يدفع الفئات المهمّشة والضعيفة من النازحين، وبخاصة من المقيمين بطرق غير شرعية، الى ارتكاب اعمال مخلّة بالأمن، مما يشوّه صورتهم ويقوّض علاقتهم مع غيرهم من اللبنانيين.
لقد أظهرت دراسة أجراها مكتب المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في منتصف عام 2014، أن 61 بالمائة من المجتمعات المضيفة التي شملها الاستطلاع والبالغ عددها 446 منطقة، قد شهدت حالات توتر اجتماعي أو أمني، أو عنف، متعلقة باللاجئين منذ بداية العام، كما تم توثيق عشرات الحالات التي تشير إلى استخدام القوة ضد اللاجئين وبخاصة في المناطق والأحياء الفقيرة، حيث تم توزيع منشورات تدعو اللاجئين إلى الرحيل والمغادرة، كما لجأت بعض البلديات لفرض حظر تجوّل على الأجانب لفرض الأمن..
لقد أصبحت العديد من المناطق اللبنانية تعيش حالة عدم استقرار، بحيث ان التدهور الاقتصادي يؤدي الى التوتر الاجتماعي ثم الأمني والطائفي، على خلفية الاضطرابات المستمرة في لبنان، في ضوء عدم كفاءة المعالجات الحكومية، والدعم الخارجي المتدنّي لجهة نقص التمويل من الجهات المانحة، ومحدودية قدرات المجتمع المدني على التحمّل والصمود.
الخلاصة
يتحمّل لبنان العبء الأكبر في العالم من أزمة اللاجئين، حيث أشارت منسقة منتدى المنظمات الدولية العاملة في المجال الإنساني في لبنان «ايمي كيث»، والمكوّن من 26 منظمة دولية غير حكومية، إلى أن «لبنان يتحمّل العبء الأكبر في العالم من أزمة اللاجئين، وعلى الرغم من ذلك لا يزال هناك تقصير مروّع في التمويل، حيث أنه مع حلول كانون الأول، لم يوفر سوى أقل من نصف مبلغ الإستجابة (46%) المنشود لعام 2014».
كما شدّدت مديرة منظمة «اوكسفام» في لبنان أنه «حان الوقت ليلاقي كرم لبنان مساهمات أكبر من قبل الدول لتلبية شتى الحاجات، من خلال زيادة التمويل، وإعادة توطين اللاجئين في دول ثالثة، ومضاعفة الجهود لإيجاد حل سياسي للأزمة في سوريا».
كما ان التهميش الاقتصادي المتزايد، فضلاً عن التوتر الاجتماعي والطائفي، على خلفية الاضطرابات المستمرة في المخيّمات، قد يكون من عوامل عدم الاستقرار على المدى الطويل في لبنان، حيث يتحمّل المجتمع الدولي العبء الأكبر من هذه المسؤولية المشتركة بسبب معارضته عودة النازحين الى قراهم في سوريا..
وعلى الرغم من محدودية قدرة لبنان على حشد مساعدة المجتمع الدولي، يمكن للحكومة اللبنانية ومجتمع القادة السياسيين في البلاد أن يكونوا أكثر استجابة لمواجهة المخاطر الناجمة عن سياسة دمج اللاجئين وتوطينهم في لبنان.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك