يحار المرء في هذا الجو السياسي المحموم والوضع الاقتصادي المأزوم، يحار من أين يبدأ، وكيف يبدأ، فما نشهده على ساح وطننا، يعطّل الفكر في وقت عصيب يمرّ بنا، ويكاد يجتاح مقدراتنا، ونحن أحوج ما نكون الى إعماله، فلقد رانت الغشاوة على العقول، وتمكّنت فغلّفت القلوب، أما الابصار، فقد حجبت الانانية والاهواء عنها الرؤية على الرغم من التداعيات والتحديات، وملامستنا الوقوف على شفا جرف هار، مصاعب ومصائب حريّ ان تجمع صفوفنا وتلمّ شعثنا فنعجب في ظلّها كيف يشتدّ تفرّقنا. فالعجب، لم يعد له موطئ قدم في قاموس السياسة لدى الزعماء والقابضين على الزمام، وكيف لا والجميع إلّا من رحم ربك، لا يرى الا ذاته يعتلي المسرح، والمسرح مفتوح لما هبّ ودبّ، فيطلق لنفسه العنان في لعب دور البطولة في كافة اشكالها والوانها وانواعها، بينما مقاسه بالكاد يصل الى حدود صرّتها، ويستمر مغمضا عينيه عن حجمه وعن قدر نفسه، ومصمّا اذنيه عن الاستماع الا لنوازع نفسه، اما التذمّر والامتعاض والضجيج والصخب والتهديد بالويل والثبور وعظائم الامور، فكلّه من قواعد اللعبة، وهي ادعى عنده لاستمرار المسرحية، مسرحية المضحك المبكي التي ملّها العقلاء لانها كانت على الدوام تستحيل على ارض وطننا الى مأساة. وكم هي المأساة مريرة عندما تزرعها النفوس المكابرة، وكم تتسع وتكبر بين الايدي التي تعبث وتتحرك لصنع الفتنة، فهي وان تنوعت مشاربها ومصادر امر عملياتها، واختلفت في مستوى قدرها وقدراتها، وتناقضت مفاهيمها، الا انها جميعا تتلاقى من حيث شاءت ام أبت في صعيد واحد، سواء تجلبب صانعوها بجلباب الالقاب والمناصب، او كانوا كالبيادق تعرّوا منها. نعم، تتلاقى في مزالق العرقلة والتعطيل والوقوف في وجه الحلول، وفي مواجهة كل المساعي المضنية للخروج من ازمة تشكيل الحكومة، لقد تنوعت الادوار، وكثرت الايدي، وتعدد الطبّاخون، ولكل دور وجهين، ولكل يد وظيفتين، ولكل طبّاخ طعمين ونكهتين، والكل يشارك في لعبة العضّ على الاصابع، وفي الرقص على حافة الهاوية، والمحصّلة واحدة، انهيار في المؤسسات واهتراء للقيم وما تبقى من هيبة عند الرؤساء والزعماء. إنّ ما نراه ونشهده في لعبة شدّ الحبال لا يعدو ان يكون على مذبح المصالح والاهواء، وليس في الافق ما يبشر بتنازل من هنا او هناك لفتح نافذة يدخل منها شعاع يوحي ويدفع باتجاه الحلحلة في سبيل الوصول الى شاطئ الامان. إنها الايدي نفسها، لا فرق بين جديدها وقديمها، تمتدّ منذ بداية الازمة الحكومية لتحكم قبضتها على مفاصل الدولة وما بقي من ملامح السيادة فيها، وهي لا زالت تمتد لتوسيع رقعة نفوذها وتمضي في توزيع الادوار مع تعديل في المظهر حينا، وفي تعدد وتنوع الاساليب احيانا. أيد تلعب لعبة المصير، بتقيّة اقرب الى التهميش للدستور واتفاق الطائف ولا ترعوي في منطلقاتها ولا تتردد في اهدافها، ماضية وتحت عناوين مختلفة ظاهرها فيه الرحمة، وباطنها من قبله العذاب في رسم معالم تخترق التوازنات والمعادلات التي تصون البلد وتحول بينه وبين الفتن والازمات. إنّها الاهواء وشهوة الحكم، إنه العبث، وهي مجتمعة او منفردة تصيب الرؤوس بالورم، وعندما تصاب الرؤوس بالورم يختفي العقل، وتتوارى الحكمة، فيصاب الوطن في وحدته، ويصاب الشعب في أمنه واستقراره ولقمة عيش ابنائه. فكيف الى خروج من سبيل، والكلّ إلا ما ندر، يضع اصبعه على الزناد، كيف الى خروج من سبيل، والبعض يتأبّط شرّاً كي يفوز في جنّة الحكم بمقعد. إننا أمام هذه الحال، التي لا تسرّ لا العقلاء ولا الاسوياء، ندور حولها غير عابئين بسوء العاقبة والمآل، ورغم ذلك، فإن من يصنع العقد، ويضع العراقيل في وجه التشكيلة الحكومية يتبرّأ من التعطيل وينحي باللائمة ويُحمّل التبعة للآخرين، بينما مؤشر الانهيار الاقتصادي يرخي بظلاله على العملة الوطنية، ويحذر من الوقوع في براثنه رئيس الجمهورية وكافة الخبراء والمعنيين، ناهيك عن تقارير الوكالات الدولية وآخرها تقرير وكالة «موديز» للتصنيفات الائتمانية التي صنفت بسلبية وضع الاقتصاد اللبناني عند المرتبة /B3/. اما المواطن المسكين، فلا يملك سوى ان يضع يده على قلبه، وهو في خشية من الانهيار الاقتصادي الذي بات كاللازمة على ألسنة المسؤولين، يخشاه ويحذر، يخشاه ويرتقب، وهو يعتصر ألما على المصير لشدّة ما يشهده ويشاهده من الهوى والاهواء للقبض على الكرسي، البارزة كعنوان ومحط للرّحال، حيث تحوّلت السياسة من فن الممكن الى السياسة الجامحة والرعناء. ونتساءل، هل من سامع للنداء قبل فوات الاوان، ام على قلوب اقفالها؟ والنداء يدوّي وقد اخترق الآذان ومحوره التضحية، والتضحية لا تؤتي أُكُلها كشعار نطلقه في الاعلام، وتلوكها السن المسؤولين في الصالونات، التضحية فعل ايمان لا يتقنه الا اصحاب الهمم العالية، وذوو النهى ممن هم في موقع القدوة، أولائك الذين يملكون الشجاعة ويسارعون لاضاءة الشموع، ويأبوا ان يكونوا من لاعني الظلام، كأولئك الذين يقبعون في مؤخرة الصفوف. واخيرا، لقد كثر الحديث عن أم الصبي في هذه الايام، وعن سيرة الحكيم سليمان، وليس من سامع ولا مجيب، وبات الصبي سلعة للتوزير في لعبة المصير.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك