كتب د. شادي سعد - محامٍ وأستاذ جامعي:
إرتبطت الفيديرالية في لبنان بمفردات الحرب. تمّ تشويه جوهرها عبر خلطها بمفاهيم التقسيم رغم أنّ تعريفها الدستوري هو "الإتحاديّة". عند كل أزمة نظام يعود الإنقسام حولها، والمناورون بها يستعملونها لتحسين شروط التفاوض على الحصص والمكاسب الشخصية. شيطنتها تخطّت حدود المنطق. فهل الإتهامات التي تطالها صحيحة؟ سنحاول سريعاً عرض عشر حقائق نردّ من خلالها على الأسئلة التي يتم طرحها بصورة غير بريئة في معركة تشويه الفيديرالية.
1. تعدّل الصيغة لا الميثاق: الميثاق الوطني هو التسوية التاريخية التي حصلت بين المسيحيين والمسلمين عام 1943 حين تنازل كل من الطرفين عن سلوك تاريخي تمثل عند المسيحيين بالتخلي عن حماية الغرب وعند المسلمين بالتخلي عن الوحدة مع سوريا، وأسسوا كياناً مستقلاً. أما الصيغة فهي الإتفاق على طريقة إدارة الدولة، وهنا المصيبة الكبرى. أكثرية أزماتنا نتجت عن الصيغة، وسوء إدارة مؤسسات الدولة، والتوافقية المستحيلة، والميل نحو الهيمنة، وتوسيع رقعة النفوذ الطائفي، وضرب اللامركزية الإدارية. فهل نبقي تلك الصيغة أم نعدّلها؟
2. تخفف الإنقسام الطائفي: يسوّق البعض أنّ الفيديرالية تشكّل فرزاً طائفياً يرسّم الحدود بين المناطق ويرفع السواتر بين المواطنين، لكن ما حصل في سويسرا وبلجيكا يدلّ على أن الفيديرالية ساهمت بتخفيف الإحتقان الطائفي لا بل قضت عليه تقريباً.
3. تخفف الإستقواء بالخارج: بعد الإستقلال، لم يصمد اللبنانيون كثيراً أمام إدمانهم التاريخي بالإستقواء على بعضهم البعض سياسياً وعسكرياً بالخارج، بهدف تحسين مواقعهم في النظام المركزي. تعديل النظام عبر توزيع الصلاحيات على المناطق وتضييق رقعة الصراعات الطائفية على السلطة المركزية تشكّل عوامل حاسمة في إلغاء ثقافة الإستقواء بالخارج لتعزيز النفوذ.
4. تفيد المسلمين والمسيحيين: كشفت الحرب اللبنانية أن الصراع في لبنان لم يكن بين المسلمين والمسيحيين بل كان صراعأ متنقلاً بين المذاهب حيناً وضمن المذهب نفسه أحياناً أخرى. فلبنان هو مجموعة أقليات لا يمكن لأي منها أن تحكمه بصورة منفردة مهما تمتعت بفائض قوة خلال فترة معينة. تخيلوا أن طرابلس بمرفئها ومطارها ومعرضها وقلاعها وبحرها منكوبة مثل بعلبك الهرمل وعكار بسهولهما ومواقعهما السياحية. فالفيديرالية هي مكسب عابر للطوائف.
5. تقلّل الملفات الخلافية: ينتقد البعض الفيديرالية كونها لن تحل المشاكل الأساسية في لبنان والمتعلقة بالأزمات الكبرى كالسياسة الخارجية والإستراتيجية الدفاعية. لكن فات هذا البعض أن الخلاف في النظام المركزي حول تلك الملفات سبب كوارث على صعيد عدة قطاعات مثل الإقتصاد والمال، الكهرباء، التعليم والإستشفاء. صحيح أن إعتماد الفيديرالية لن يحلّ فوراً الخلاف حول السياستين الخارجية والدفاعية لكن على الأقل سينحصر الخلاف حول هذا النوع من المشاكل ولن يمتد الى الملفات الحياتية الأخرى. فهل ننتظر حل الخلاف حول الملفات الإستراتيجية لنبدأ بمعالجة الملفات اليومية؟
6. تحافظ على هوية لبنان التعددي: لم ينجح أي نظام دستوري في إدارة المجتمعات التعددية كما فعل النظام الفيديرالي. سويسرا، بلجيكا، ألمانيا، الولايات المتحدة الأميركية مثال حي. فالتعددية اللبنانية ليست مرضاً يقتضي علاجه بل هي ثروة يجب المحافظة عليها والإستفادة منها. أما العناوين البراقة كالإنصهار الوطني من جهة والدولة المدنية من جهة أخرى هي للأسف تندرج ضمن خانة التكاذب الوطني في الطريق نحو القضاء على التعددية لمصلحة العدد.
7. ترسّخ تطبيق الديمقراطية: أثبتت مرحلة بعد الطائف أن الديمقراطية لا يمكن تطبيقها على مستوى لبنان المركزي وبدعة الديمقراطية التوافقية ليست سوى عامل يعطّل أي محاولة لتطبيق الديمقراطية الحقيقية. وعند كل إستحقاق، يسعى كل فريق طائفي إلى إثارة العصبيات لكسب التعاطف في بيئته ثم يبادر بعد الإستحقاق فوراً الى العودة نحو الشراكة التجارية والمصلحية مع خصمه الإنتخابي. تطبيق الفيديرالية يجعل من الديمقراطية الفعلية السبيل الوحيد لإدارة كافة الشؤون داخل المناطق الفيديرالية المتعددة دون الحاجة لأية حسابات أو توازنات طائفية.
8. تحافظ على الإختلاط الطائفي ضمن المناطق: سببت الحرب الأهلية نزوحاً كبيراً وتهجيراً قسرياً لمجموعات كبيرة من اللبنانيين إنتقلوا من مناطقهم التاريخية الى داخل المناطق التي تتميز بتواجد غالبية طائفية متجانسة. كما أن سنوات السلم سببت نزوحاً من الأطراف نحو الداخل بسبب إنعدام الإنماء المتوازن وغياب مقومات الحياة الكريمة في العديد من المناطق اللبنانية. الفيديرالية تساعد في ترسيخ العيش في الأطراف كونها تجعل من كل منطقة قادرة على الإستمرار دون حاجة لدعم المركز.
9. تحافظ على وحدة الدولة وتمنع التقسيم: شهد العالم في القرن الماضي العديد من حركات الإنفصال تبعاً لعدم إحترام السلطة المركزية لخصوصيات الاقليات. والمثال الكندي خير دليل على قدرة النظام الفيديرالي في حماية وحدة الدولة ومنع التقسيم على غرار ما حصل عام 1995، حين طالب قوميون بالكيبيك بالإنفصال عن كندا، وسقطت مطالبتهم بعد الإستفتاء حيث نجحت الفيديرالية في كندا بالمحافظة على تعدديتها وعلى وحدتها.
10. تتم عبر موافقة كل المكونات لا بالفرض: الخوف من فرض الفيديرالية غير مبرر خاصة وأن هذا النظام لا يمكن أن يبصر النور دون توافق وإجماع كافة الأطراف عليه. خارج الإجماع لا فيديرالية.
في الخلاصة، عمد البعض الى تشويه الفيديرالية بغية تأمين إستمرارية هذا النظام المركزي الفاشل المعطّل. الفراغ المتكرر في السلطات الدستورية سبب إنهياراً لثروات لبنان التاريخية على الصعد الفكرية، الإقتصادية والخدماتية. مع ذلك، يخرج علينا كل فترة من ينادي بالفيديرالية ليبتز شركاءه في المحاصصة الطائفية وليحسّن شروطه ضمن النظام المركزي. هؤلاء المناورين بالفيديرالية أخطر الناس عليها وعلى الوطن. يناورون بها لتحقيق مكاسب آنية وهم يدركون أن النزيف الضارب عميقاً بالمكونات التاريخية للبنان سبب إنهياراً وجودياً دمّر المدرسة، المستشفى، الجامعة، المرفأ، المصرف، والقطاع السياحي وسيسبب تهديداً حقيقياً لوجودية كيان عمره 1400 سنة. فهل نترك جشع البعض يدمّر ما لم تقدر على تدميره عبر التاريخ أخطر الجيوش الغازية، أم نحافظ على لبنان الرسالة ونردد مع غبطة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي أننا "لن نسمحَ بسقوطِ أمّتنِا العظيمة ولن نؤخذ بالواقع المضطرب والقوّة العابرة. فنحن شعب لا يموت ولو أُصبنا في الصميم".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك