هل يَسلَم الميثاق الوطني من الانقِضاء التأبيدي في ظِلّ تأكّد انهيار هيبة الدولة وقدرتها المشلولة اصلاً على الالتزام بخدمة مواطنيها؟ وهل يصِحُّ الحديث عن استمرار الميثاق - والصيغة في سياق الإصرار على رهنِ لبنان وخطفه في دوّامة اشتداد الاشتباك الإقليمي - الدَّولي حول قضايا لا تمتّ الى المصلحة الوطنية العُليا بأي صلة؟
سوداويّة المشهد اللبناني في الجوهر - ولست معنيّاً بذاك الشكل الواهن لسيادته إذ هو حتميّةٌ فرضها من صمّموا على ضرب الجوهر - سوداويّة المشهد اللبناني قائمةٌ في الانصياع لميزان القِوى بدل الانخراط في قوّة الحكمة لإنقاذ ما لم يتبقَّ من الدولة عدا اشلائها المتناثرة هنا وهناك.
سقطت كلّ الثوابت السياديّة. سقطت كلّ المسلّمات الوطنيّة. وما نُعانيه في الداخل، ولو أنّ فيه ارتدادات خارجية، أساسه قائمٌ في افتِقادنا لأداءِ رجالاتٍ من أجل الدولة، لصالح تمدُّد رجالاتٍ على حساب الدولة. التسويات في هذا الحيّز لا تعود تسويات بل منتفعاتٍ آنية نتِنة. كل ما في الأمر أننا في صميم الانهيار وما زلنا نستجدي ترقيعاً من هنا، ومواربة عن المواجهة من هناك.
حُوِّل لبنان ورقة مقايضة ومساومة ومفاوضة وضغط على مرِّ التاريخ. لا حاجة لاستعادة مفاصل استخدام الورقة. ولم نتعلّم. أو قُل لم يتعلّم أولئك الذين أمسكوا زمام المبادرة منذ زمنٍ طويل ويستمرّون في تطويع الدولة، واستعمال النظام، والتذاكي حتى على الأشقاء والأصدقاء. حتى إنّ هؤلاء الأخيرين، ومنهم كثيرون صادقون صدوقون تجرأوا على التساؤل ماذا يفعل اللبنانيّون عدا افتعال الانتحار تِلوَ الانتحار.
كلام وزير خارجية الفاتيكان الأخير الكاردينال بول ريتشارد غالاغر كان كثيف الرمزية في شبه تحذيرٍ من إعلان موتٍ سريري للبنان. لم تكن تلك هي الحال مع البابا القديس يوحنّا بولس الثاني الذي وَسَم هوية لبنان الكيانية بالرسالة تحت سطوة احتلالين وتمهيدٍ لإنهاء الروح الدولتيّة. حينها أيضاً كان أولئك الممسكون بزمام المبادرة مُطوّعين عدا أحرار رفضوا التدجين التسوويّ، وراكموا حتى نداء الـ2000 مسارات انتفاضة. كان هؤلاء الأحرار أكيدين من أن أثمان المواجهة باهظة. وكنّا ندرك معهم أن عودة مسالك التحرّر بعد التحرير لن تنتهي، وما ينتظرنا إعادة بناء الميثاق بتحييد لبنان، والصيغة بتكريس توازن التعدّدية، والدولة بما يشبه إبداعات اللبنانيين. سقط الأحرار بضرباتٍ قاسية. لكنهم تركوا لنا ذخراً يُرَوحِنُ خيباتنا. لم يدم الذخر إذ عادت التسويات ضرورية لكن قاضمة لبُنيةٍ مترهّلةٍ أصلاً في أخلاقية الحُكم.
حُوِّل لبنان مجدداً بعدها ورقة مقايضة ومساومة ومفاوضة وضغط. وحُول الإقليم ابتلعت قياداتٍ فيه. ولمّا أشار أحد أصدقاء لبنان العرب بالبنان لحليف له في العام 2001، ليس بالمعنى الاستتباعي الذي يهواه البعض ويمارسه، قائلاً له: “نحن مع تحييد لبنان. نريده مُعافىً. وسنستمر ندعمه دون هوادة. لكن أرجوكم ابنوا دولة”، لمّا أشار الى حليفه بذلك كان في عينيه بعضُ من دمعة خوفٍ من أن النفَس التسوويّ أساسه مسلّمات أكثر منه تنازلات. رحل هذا الصديق الكبير المحبّ للبنان. واغتيل التحييد الى غير رجعة. دخل لبنان مجهول اختطافِ قوة.
أخاف أننا اعتدنا على أن نبقى ورقة… لينقضي الميثاق… ونترحمُ على لبنان - الصيغة… إلا إذا استفاقت الانتلجنسيا من نومِ الاستسلام وفرضيّة المصادرة التأريخية. أخاف أن تستحيل الدولة متحفاً!
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك