فشِلت الأديان في تطوير منظومة الاعتدال تربوياً. التربية مؤسِّسة في أيّ ثقافة محبّة وتسالُم. جريمة نيوزيلندا وما سبقها جرائماً متلبِّسة ثوباً دينيّاً فاشيّاً، وما تلاها وقد يليها من تعبئة استقطابية، كلّ ذلك مردُّه في عمقه الى فشل الأديان. ليس في ما تحمله هذه الأخيرة من قِيَمٍ انسانيّة. بل في قدرة بعض الخبثاء من استغلال رزمة من تأويناتٍ جيوبوليتيكيّة يختلط فيها الأيديولوجي، بالاقتصادي، والاجتماعي، والطقوسيّ العلائقيّ، واستغلال هذه الرُزمة لتفجير أحقادٍ مرتبطةٍ بفشلٍ في حوكمة رشيدة للموارد كما للعقد الاجتماعي. لا يكفي الانكباب على خوض غمار تعميق مفاهيم المواطنة والتعدّديّة على مستوى النُخَب. ماذا أنتجت عقودٌ من الحوار المسيحي - الإسلامي؟ وإشارتي الى المنهجيّة التي تمَّ اعتمادها فالمضامين ممتازة.
وفشِلت الأحزاب الممسِكة بزمام الحُكم، خصوصاً في الثلاثين عاماً الأخيرة، في استبعاد تصاعد اليمين المتطرّف. في أوروبا التي أفَل فيها، عدا بعض منصّاتٍ محدودة، أفَل فيها وهج يسارٍ متنوِّر، هذه الأوروبا خائفة من انتخاباتٍ لنوّابها في الاتحاد، والخوف للمفارقة نِتاب أحزاب يمين الوسط التي كانت تاريخيّاً في موقع متقدِّم من اليسار لصَونِ الاعتدال والاستقرار، والتخفيف من مسار تأزم الهويّاتِ الثقافية، والاقتصادية، والدينيّة في المجتمع الأوروبي، لصالِح مسارٍ ديموقراطي تحكمه البرامج بدل استنفار الغرائز. في مرحلة التوازن هذه تموضَع الإسلام في قلبِ قارةٍ جذورها التقليديّة قائمةٌ في المسيحيّة. عانقت المساجد الحديثة الكنائس المعمِّرة خصوصاً منذ القرون الوسطى بهندسةٍ لافتة في تشكيلاتها الفنيّة وتعبيراتها اللاهوتيّة. لم يتمكّن اليمين المتطرّف وحلفاؤه الشعبويّون من اغتيال صيرورة اقتبال التنوّع حينها. لكنَّ بعض الإسلام الذي لم يستلهِم عُمقُه الفقهي السّلاميّ استمرّ في أوروبا، وفي العالم الغربي في خيار إجهاض التلاقي النوعيّ بين المسيحيّة والإسلام. "داعش" إفرازٌ مخابراتي حتماً لكن باستخدامٍ سرطاني لأنظومة عقديّة.
في أيّ حال، فرض فشل اليمين الأوروبي ويسارُه في تحصين المناعة المجتمعيّة سياسيّاً من ناحية، وحتَّم انغماس عصبية قاتلة مستخدِمة الإسلام زوراً من ناحيةٍ ثانية، كلٌ من مُنطلقِ مختلفٍ كليّاً، واقعاً مأساويّاً لن يكتفي على الأرجح باستنهاض مأزوميّة في اللاّوعي الديني لدى الطرفين المتقابلين، أي بعضُ مسيحيّي الغرب وبعض مسلميه، بل سيتوسّع في إعادةِ انتاج صراعٍ عرقيّ نتِن. قد لا تنجو الطبقيّة من يقظةٍ محتملة.
هذا السيناريو الأبوكاليبتي، والذي على رجاحة اندفاعته الرّعناء، ما زال يواجه فرملة مقبولة إنما غير مستدامة وغير منسّقة من بعضِ ما تبقّى من عقلانيّة يمينيّة وانتفاضةٍ يساريّة، يبدو يمتلك أرجحيّة. الفرملة الهزيلة العناصر المفاهيميّة، والمتوعِّكة في مخاطبة القواعد الشعبيّة خصوصاً في ما يُعنى بأزمتي اللجوء والهجرة، لا تُقدِّم بأيّ شكلٍ من الأشكال أفُق استعادة استنهاض سًلّمٍ قيميّ تحمله أيديولوجية كل من اليمين واليسار، ولم تتمكن من استدراج رجالاتِ دينٍ أنقياء لإنجاز ثورةٍ على من يتلطّى بما تعلّموه ويعلّمونه ويناضلون من أجله. مشهد البابا فرنسيس وإمام الأزهر معاً أبّان توقيع وثيقة الأخوّة الإنسانيّة في الإمارات كان استثنائيّاً، لكن الأهم الاستثمار العملاني لتوجّهات هذه الوثيقة التاريخيّة. الإكتفاء بالحدَث لا يُجدي. جريمة نيوزيلندا تشي بكثافةٍ من التصدّعات الآتية.
الفشل الأكبر هو لِما اصطُلح على تسميته بالمثقّفين هو الأكثر نكبةً. هؤلاء يواكبون أدلجة الكراهية تديّناً بانكفاءةٍ مخيّبة أو بتواطؤ بحثاً عن موقِع. باتوا إما أسرى اليأس من الانخراط في فضاءاتٍ مؤثرة، أو مطوَّعين بمحفّزات الالتصاق بأحد أطراف الصراع على السُلطة. الأزمة البنيوية تكمُن في هؤلاء. وإن لم يسترجعوا رسالتهم النبيلة في تفكيك الديكتاتوريّات والثيوقراطيّات والشعبويّات، فسنشهد على انهياراتٍ مخيفة...!
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك