خيارُنا لم يكُن الخلاص. ولم يكن كذلك الجحيم. إستنقاعُنا الإداري في ستاتيكواتٍ مُلتبِسة أردانا في مربَّعٍ رماديّ يصِحُّ فيه ما ورد في سفر الرؤيا: "هكذا لأنّك فاترٌ، ولست بارداً ولا حارّاً، أنا مزمعٌ أن أتقيّأك من فمي" (رؤ 3/16). الفتور فِعلٌ لبنانيّ يتلطّى بمقولة التسوية. حَسمُ زمام الأمور في قاموسنا يسمح بتجاوز الدستور واستباحة القانون وتسخير الدّولة لمصالح هنا وثمّة.
في عيشِنا الواحد لم نحسِم سُلَّم القِيَم. في الاقتصاد لم نوازن في توجّهاتنا بين الريعيّ والإنتاجي. في سيادتنا نصِرّ على تسيُّد تشوّهات. في ديبلوماسيّتنا استدارةٌ عن الشرعيّات الحقيقيّة. في مصطلحاتنا السياسيّة قولٌ كثير في انعدام تحقُّق. في دستورنا تحييدٌ عن البُنية المؤسِّسة لإدارة سليمة للتعدّديّة. في الإنماء انحيازٌ للارتجال. لكن كلّ هذا ليس الجحيم. الجحيم هويّة واضحة. ما نحن فيه عبثيّةٌ قاتِلة.
لم نقرّر حتى الآن أن نذهب الى جحيم الجذر الانفعاليّ الذي نعايشُه على كلّ المستويات. الذّهاب الى هذا الجحيم وحده يُطلِق مسارنا نحو رحلة خلاصٍ، ونحن على أبواب مئويّة لبنان الكبير الأولى.
إعلان البطريرك الحويّك مكرّماً في زمنِ اللّعنات المُتنقِّلة هذا إشارة الى موجب الاختيار بين ما علينا فعله، وما يفرِضه علينا البعض باسم مشروعيّة اغتصبوها من خلال منظومة زبائنيّة مُحكمة المأسَسة. موجب الاختيار قائمٌ في هل يمكننا الاستمرار على النّحو التّهالكيّ الذي أُرغِمنا عليه؟ أم يُقتضى منّا التِفافةً ذكيّة نعود بها الى معنى لبنان، والى معنى الحُكم في لبنان؟
معنى لبنان القديم إنتهى. أنهَته عوامل عدّة. أقلّها الاستقطابات الخارجيّة. أوقحها فقدان المناعة الدّاخليّة. لم نُقِم في لبنان إطاراً لأمنٍ قوميّ، بداءً من بروفايل الأُمّة اللبنانيّة الذي صاغ مضامينه كمال يوسف الحاج، مروراً بأطروحة ميشال شيحا حول رسالة لبنان في الإقليم، خلوصاً الى رؤية شارل مالك لنموذجيّة لبنان الحضاريّة عالميّاً. أضعنا البروفايل والرّسالة والنموذجيّة. فتَّتَ لبنان من ادّعوا أنّهم مؤتمنون عليه. بعضهم الذي خبِر السُلطة أمعن في مسيرة التفتيت والاستنزاف.
في العام 1860، ومن رحم مجازر دمويّة وُلِد قلبٌ نابض. إنتصر جبل لبنان للعيش الواحد. وفي العام 1920، ومن عرين الانتداب، إنتصر البطريرك الحويّك للبنان الكبير. في التاريخَين كانت الضبابيّة أكثف من زمننا. لم يكن مرَّ على لبنان اهتزازاتٌ كتلك التي استُهِلّت في العام 1948. منذُها ألا يستأهِل اللبنانيّون أن يُعلن لهم قادتهم المفترضون أنّهم اتّعظوا من التاريخ، وهم يفهمون الجغرافيا، ومعنيّون بحماية المشتركات بعد مآسي فيها انتحاريّة؟
حتماً اللبنانيّون يستأهلون وطناً يُشبههم ودولةً تُحاكي إنجازاتهم. لكنّ اللبنانيّين مسؤولون أيضاً عن احتراف إضاعة الفُرَص باللاّحكمة واللاّحنكة. يحكُمهم التوتّر واللاّتخطيط. يُغريهم عِشق مُكاسرة أحلامهم. يلتصقون باللاّمدى حتى ثمالة الاندِحار.
إقرأوا في التّسويات التي نتراقص على هاوية حبالها منذ عقود. ليست هذه بتاتاً تسويات. متى نذهب الى الجحيم في رحلة خلاص؟ الجحيم بهشيمه وحده قادرٌ على أن يُعيد إلينا بوصلة داسها هواةٌ دون هوادة!
********************
صدُق خليل مطران حين كتب: "كلّ قَومٍ خالِقو نيرونهم / قيصرٌ قيل له أم كِسرى".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك