أينما غابت هيبة الدولة، واستوطن الإرهاب والتطرف، وحلت الاضطرابات، واشتعلت الحروب، فإن الإرث الثقافي التاريخي الإنساني يصبح عرضة للنهب، والتخريب. ولعلنا ما زلنا نتذكر بألم ما تابعناه يحدث من تخريب متعمد في المتاحف العراقية من تدمير للقطع الأثرية بالفؤوس من قبل متطرفين دينيين، وما حدث من تخريب للآثار في سوريا. وما حدث لتمثال بوذا الضخم في أفغانستان، من قصف بالمدافع، في مشاهد منقولة على وسائل الإعلام المرئية، مثال آخر لا أعتقد أن بمقدور أحد تجاهله، أو نسيانه، أو غض النظر عن الخطر الذي يهدد ذاكرة الإنسانية، بالتدمير والتخريب والنهب.
الإرث الثقافي التاريخي، ضحية أخرى، من ضحايا الحروب. وفي ليبيا، التي دخلت، بقدميها، وبعينين مغمضتين، في أتون حرب أهلية، منذ ثمانية أعوام، كان الإرث الثقافي التاريخي مشرعاً أمام اللصوص، والمهربين، والمحتالين، في بلاد انهارت فيها كل مقومات الدولة، وبحدود، مفتوحة على بلدان كثيرة، وخاصة بلدان الجنوب، ما جعلها فردوساً لمهربي البشر، والسلاح، والإرهاب، والمخدرات، وأيضاً لصوص الآثار.
في عام 2015، كنت أعمل مستشاراً إعلامياً، في السفارة الليبية - لندن، حينما كلفت بمتابعة القضية المرفوعة من السفارة بالمحاكم لاسترداد قطعة أثرية يونانية، من القرن الثالث، أو الرابع الميلادي، تمثل الربة اليونانية ديميتر، أو ابنتها بيرسيفون. التحفة الأثرية، مسروقة من مدينة شحات، كانت في طريقها للبيع في مدينة لندن، لكن رجال الجمارك في مطار لندن - هيثرو، استرابوا فيها من خلال إيصالات بوليصات الشحن، فأوقفوها. وفتحت السلطات الجمركية تحقيقاً أولياً في الموضوع، أكد صحة شكوكها، فصادرت التحفة. لكن صاحبها، أو أصحابها، رفعوا قضية قضائية مطالبين باستردادها، ومؤكدين أنها لا تزيد على كونها عملاً فنياً منقوشاً من حجر، لا تصل قيمته في الأسواق إلى أكثر من 110 آلاف جنيه إسترليني. تبين فيما بعد، استناداً إلى شهادات الخبراء الأكاديميين بالمتحف البريطاني، أن قيمة التحفة تتراوح بين 1.5 مليون جنيه إسترليني ومليونين.
ما تبين لي، من خلال متابعتي الراصدة، لجلسة المحكمة، وما اطلعت عليه، بعدها، من تقارير وشهادات، وأقوال، ومحاضر، أن شبكات تهريب التحف الأثرية عالمية، وعلى قدر عالٍ من التعقيد، والتنظيم، والتنسيق، ترتكب جرائمها، وتراكم أرباحها، من خلال مكاتب موزعة في بلدان كثيرة، متخصصة في شراء وتجميع الآثار المسروقة، ثم القيام عبر شبكات أخرى بنقلها إلى أماكن مختلفة، بغرض إخفائها، على أمل إيجاد مشترين لها في العواصم الغربية، من الأثرياء المغرمين بتجميع التحف الأثرية. وبخصوص تلك القطعة اليونانية، كانت هناك مراكز مرت بها في رحلة منذ عام 2011. في دورة طويلة، لتنتهي في أيادي رجال الجمارك في مطار لندن - هيثرو، في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2013 ثم تواصل الرحلة قضائياً، عبر خبراء المتحف البريطاني، لتحكم المحكمة في سبتمبر (أيلول) 2015 بحق ليبيا في استردادها.
في المرّة الثانية، جلست على مقعد خشبي، في قاعة فسيحة، بسقف عالٍ، تقع في منطقة وستمنستر، متابعاً، ومراقباً مجريات وقائع جلسة قضائية، خصصت للنظر في قطعة أثرية يونانية نادرة مسروقة من مدينة شحات، بشرق ليبيا. هذه المرّة، قضت المحكمة برد القطعة الأثرية إلى دولة ليبيا، وأمرت المجني عليه بدفع مصاريف المحكمة التي بلغت 50 ألف جنيه إسترليني.
أطراف النزاع الليبي، ليس من أولوياتهم، واهتماماتهم، حماية الإرث الثقافي التاريخي للبلاد، والمحافظة عليه من الأيدي العابثة. ولم تجد صرخات المؤسسات المعنية بهذا الإرث ومسؤوليها آذاناً صاغية، وتُركت تلك المناطق الكثيرة لقدرها، مفتوحة لعبث العابثين، وجشع الطامعين، وتحول كثير من مناطق التنقيب الأثري، بالقرب من مدينة شحات، إلى أراضٍ زراعية، وأخرى صارت مواقع لمشاريع سياحية خاصة، وثالثة تحولت إلى مساكن. وفي مدينة لبدة الأثرية، سمعت أن عدداً من أهالي المنطقة اضطروا إلى تنظيم أنفسهم في دوريات، تطوعاً، لحماية الآثار من السرقة والتخريب.
في الفترة الأخيرة، عرض المتحف البريطاني 154 قطعة أثرية، من القرن الرابع الميلادي، سرقت من أفغانستان، تمكنت أجهزة الأمن البريطانية، في عام 2002، من كشفها في طريقها إلى البيع في السوق السوداء، مقبلة مشحونة على متن طائرة من باكستان. وأعاد المتحف تجميعها، وأصلح ما حل بها من أعطاب، ورقمها، ثم عرضها، مؤخراً، للجمهور، قبل أن يعيدها إلى أفغانستان.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك