الذكرى 76 لاستقلال لبنان الأول كثيفة الدلالات. ترافُقها مع ثورة الاستقلال الثالث في يومها الـ37 يحتمل بحثاً معمّقاً في رمزيّة مُلاقاة أيضاً دخول بدايات مئوية لبنان الثانية.
هذه الاحتشادات المعنوية الوطنية تتبدّى على كثيرٍ من الالتباسات الموجب تفكيكها.
لبنان كان دوماً، وبفِعل الجيوبوليتيك الذي يحيط به، والتشكيل التعدّدي الذي يختزنه، كان دوماً في حِقبةٍ تأسيسيّة طامحةٍ لاكتمال في الهويّة الوطنيّة والتمظهر الدولتيّ (Etatique).
ليس هذا التموضع في حِقبة تأسيسيّة مستدامة بتهمة، فكذا حال كل الكيانات القوميّة، ولو أتت هذه الحال بتغييراتٍ متمايزة هنا وثمّة.
لكن، وبقدر التأكيد على أن الأوطان هويّات وأنظمة سياسية بمعنى مكوّنات العقد الاجتماعي من طبيعتها معايشة تطوّراتٍ مؤسِّسة متلاحقة، بالقدر عينه يجب فهم أن معضُلة لبنان في هذا السياق كانت في أواخر الستينيّات محاولة وضع يدِ ثورةٍ على الدولة، ومنذها دخلنا مراحل دفعت باتجاه تفتيت الهوية السياديّة والمجتمعيّة أكثر منه بناء مناعتهما. تبع ذلك احتلالٌ ووصاية وفائض قوّة، وهذه عناصر اجهضت عملانيا إمكانيّة عودة لبنان الى اللبنانيّين. هل هو الواقع كذلك منذ 17 تشرين الأول؟
بطبيعة الحال، مِفصليٌّ كان هذا التاريخ في فرض معادلة جديدة بأن الناس هم الدولة، والسُلطة هي مواقع نفوذ.
مواقع النفوذ لم تتوانَ عن أبلسة (Diabolisation) الدولة بتحويلها مساحات مغانم أبعد من فئوية، عنيت احتكاريّة من ناحية، كما بتصوير هشاشة أمنِها القومي، عنيت لاحصرية شرعيّتها الدستورية والعسكرية من ناحيةٍ أخرى.
لم تكن الأبلسة هذه، في مسار متحكِّم وحاكم، سوى انقضاضاً منهجياً على إرادة اللبنانيين في النضال لتمتين حقهم بالانتماء الى دولة يفتخرون بها.
أبلسة الدولة كانت مرحلة أولى لضرب صيغة لبنان، الحضارية تاريخياً، والميثاق الذي حيّده عن محاوِر قاتلة. الآباء المؤسّسون للميثاق والصيغة فهِموا بنيويّة مكامن القوّة، كما مواقع الخلل في وطن الأرز، فشيّدوا بدهاء مسار دولة.
غير ان بعضاً، من حديثي النعمة السياسية، الذين خلفوهم شيّدوا بخبثِ مسار تدمير الدولة لصالح نظامٍ على مقياس تفاهةٍ فاقعة.
وما كان في الحسبان أيضاً انسياق السُلطة الى أبلسة الثورة في لحظة استثنائية، في حين أن الناس صمموا على أن يتجاوزا نمطيّة أن الدولة والثورة نقيضان، ليثبتوا أن ثورتهم تحرِّر الدولة من خاطفيها.
الاسترسال في عرض مآلات التحرّر والتحرير التي كانت مفاصل الدولة محجوزة عنها، لم يعُد سوى من دوّامة تكرارٍ ممِل خصوصاً في سياقات الزبائنيّة، والمافوق - شرعية، وتحطيم الدستور، والتمنين بالحقوق، وكسر هيبة العدالة، وتمييع حصر السلاح بالمؤسسات العسكرية والأمنية ذات الغطاء الشرعي، ورهن كرامة المواطنين باستنسابيّة مخصّصات السُلطوييّن، الى ما هنالك من استنزاف مقيت لِما توافَق عليه اللبنانيّون في حوكمة سليمة لتنوّعهم.
كل ما سبق ثار عليه الناس بعد أن نضُجت لديهم قناعة أن السُلطة، ومن وراءها، مستنقعةٌ في خيار أبلسة المعترضين على أدائها، حتى إنها شوّهت روح الدولة، وها هي تبحث عمّا يمنحها إمكان تشويه الثورة.
ثار الناس دون وجل. وكان لهم في اليوم الثاني والثلاثين نقيبٌ للمحامين في بيروت صنع بانتخابه ترميماً بنيويّاً بين الدولة والثورة.
صارت الثورة دولةً في مرحلة تأسيس متجدّدة، وراكمت السُلطة ذعرها التراجعي، فإلى مزيدٍ من النضّال.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك