آن الأوان ألّا نكتفي بأن نحلم بالتغيير
حكمت أبو زيد
24 حزيران 2021 11:25
كتب حكمت أبو زيد (جزء أوّل من كتابه "الثورة المؤسّساتيّة في لبنان")
أنا من هؤلاء اللبنانيين الذين ولدوا في لبنان خلال الحرب الأهلية التي اندلعت في شهر أيّار-مايو من العام 1975. في طفولتي، كنت شاهدًا على نزاع دامٍ، مقلق ومربك. وكالكثير من أبناء جيلي، ما زلت أجرّ في صميمي أذيال صفير القنابل، ودويّ انفجاراتها، ورائحة البارود، والولولة والنحيب اللذين يليانها، وحداد كلّ أولئك الذين خسروا أعزّاء على قلوبهم. وككثيرين أيضًا، حملت إرث السرد السياسي للأحداث التي عصفت بلبنان، منذ أيّام الأمير فخر الدين الأوّل حتّى يومنا هذا.
ولا يخفى على أحد أنّ هذا السرد كان في الكثير من الأحيان محرّفًا، وقد جاءت صياغته بحبر التحيّز، ليس فقط باللجوء إلى شعارات فضفاضة محمّلة بالكراهية والخيانة، ولكن أيضًا بالارتكاز إلى تحليل غالبًا ما كان مغلوطًا للأحداث. ويعود السبب في ذلك إلى مجموعة من العوامل الجيوسياسية الكامنة خلف سرد هذا التاريخ. على الرغم من كلّ ذلك، ما زال لديّ «إيمان بلبنان»، بصرف النظر عن الغموض الذي يلفّ علّة وجوده.
إنّي أحلم بلبنان حديث يواكب العصر، فيه تحظى المؤسسات باحترام الشعب، وفيه شعار دولة القانون - الذي أصبح اليوم مجرّدًا من معناه - يقهر دكتاتورية «الفساد المنظّم»، يتغلّب على هذا الفساد المنظّم، الخاضع للرعاية، المتلطّي بحماية طبقة سياسية غير كفوؤة عمدت إلى تقسيم ثروات البلد واقتسامها في ما بينها على أساس الحصحصة المذهبية، ونصّبت نفسها الضمانةَ الوحيدة لسلم اجتماعيّ متداعٍ فشل في صَوْنِ كرامة الإنسان.
لا أزال، وبكلّ بساطة، أؤمن بلبنان تسمو فيه المصلحة العامة على أيّ مصلحة أخرى. هذا هو لبنان الذي نحلم به جميعنا؛ لبنان الإبداع، لبنان الذي يحلو العيش فيه، وفيه يحظى المواطن بالتقدير والاحترام، لأنّ وطنه يؤمّن له الأرضيّة الأنسب ليبلغ الانفتاح ويحقّق الذات. لبنان هذا يتمتّع بقدرة متجدّدة على إعادة إحياء نفسه.
فعلى حدّ قول فرجينيا وولف: «الحياة حلم، واليقظة هي التي تقتلنا». الحلم، مهما كان، ممكن. إنّه نواة انفتاح المجتمعات، وانفتاح الإنسان أيضًا. على كلّ منّا إذًا ألّا يتخلّى أبدًا عن حلمه، الحلم بما هو أفضل من أجل نموّنا وانفتاحنا، وكلّ ما هو عادل لوطننا. لبنان حلم بحدّ ذاته. ولو كنّا، منذ أبصرنا النور، شهودًا على النفاق والاحتيال، والشلل المؤسساتي، والتعدّي على الحريّات، وغيرها من الممارسات الفاسدة، فإنّي لا أزال مقتنعًا بأنّ «لبنان الحلم» ما زال قابلًا للتحقيق.
هذه الكلمات نداء للبنانيين جميعًا، لأقول لهم إنّه آن الأوان ألّا نكتفي بأن نحلم بالتغيير، بل أن نعمل يدًا بيد وأن نبذل كلّ الجهود لتحقيقه: هذا الحلم الذي ينسجم مع نموّنا، الذي يضمن حقوقنا الثابتة المترسّخة، الذي يبدّد شكوكنا بالغد، ويشبه أطفالنا وطموحاتهم المستقبلية، ويجعل منّا جميعنا مواطني الجمهورية اللبنانية وليس زبائن في خدمة إقطاعيّي طبقة سياسية تآكلها الفساد! أكتب هذه السطور محاولًا من خلال هذا الكتاب أن أتجاوز الأحكام المسبقة، أن أفكّك الحواجز التي بناها اللبنانيون بين بعضهم البعض ورفعوها على حساب المؤسسات، والصالح العام، والنظام العام، والعقد الاجتماعي اللبناني.
إنّ همّي واهتمامي بالعبور إلى لبنان الجديد هذا نما يومًا بعد يوم. لقد كبرتُ في لبنان ما بعد الحرب، حيث كان يُباع «حلمٌ» يحمل كلّ الآمال التي يمكن لشابّ مثلي أن يصبوَ إليها. وإذا بالتعايش أو الوفاق الداخلي، ينزل علينا بالمظلّة من «الخارج» برعاية دوليّة وفي مناخ دوليّ معيّن، مكلّلًا باتّفاق الطائف الذي وقّع عليه نوّاب لبنان بتاريخ 22 تشرين الأوّل-أكتوبر 1989، وإذا به يؤسّس للجمهورية الثانية. لم يمرّ وقت طويل قبل أن أستنتج أنّ الواقع مختلف كلّيًّا، وأنّ ممارسات الحرب الميليشياوية أصبحت الأسلوب المتّبع في لبنان ما بعد اتّفاق الطائف. الفارق أنّنا استبدلنا المدافع والرصاص باختلاس الأموال وتضارب المصالح، والمواجهة المستمرّة، في إطار اقتسام موارد الدولة وخزينتها!
من هذا المنطلق، قرّرت أن أبحث عن الحقيقة، حقيقة ما، فاخترت أن أتابع دراستي في الحقوق. وقد جمعت مخزونًا قانونيًّا استطعت من خلاله أن أفهم طريقة عمل المؤسسات، وأن أكوّن كمشاهد ومراقب رؤيةً معيّنة من أجل «لبنان معدّل بشكل ثوريّ» أو معادٍ تصميمه، إذا صحّ القول. هذه الثورة المؤسساتية، وضعتُ مفاهيمها وشكّلتُ تصوّري لها، مذ كنت على مقاعد الدراسة الجامعية، مستندًا إلى نشأة حوكمة جديدة تكون مرآة لتطلّعات اللبنانيين وتعكس مخاوفهم وطموحاتهم. ولمّا كنت على معرفة وثيقة بأسس الجمهورية اللبنانية وبتركيبة نظامها، ركّزت أبحاثي على النماذج المؤسساتية حول العالم وتعمّقت في دراستها، ووضعت مقارنة بينها وبين النظام اللبناني، وذلك بهدف تقييمها بشكل أفضل وإيجاد الحلول المناسبة. وفي خضمّ هذه الدراسة كلّها، بقي سؤال أساسيّ واحد يتصدّر أفكاري ويعود إلى الواجهة باستمرار: ما هو النظام الإداريّ الذي يتناسب مع البنية الاجتماعية في لبنان، مع العلم أنّ هذا البلد لطالما كان معرّضًا لمخاطر الهيمنة الخارجيّة.
من كتاب "الثورة المؤسّساتيّة في لبنان" الذي يوقّع عليه حكمت أبو زيد عند الخامسة من عصر اليوم الخميس في كليّة العلوم الإنسانيّة في جامعة القديس يوسف
أنا من هؤلاء اللبنانيين الذين ولدوا في لبنان خلال الحرب الأهلية التي اندلعت في شهر أيّار-مايو من العام 1975. في طفولتي، كنت شاهدًا على نزاع دامٍ، مقلق ومربك. وكالكثير من أبناء جيلي، ما زلت أجرّ في صميمي أذيال صفير القنابل، ودويّ انفجاراتها، ورائحة البارود، والولولة والنحيب اللذين يليانها، وحداد كلّ أولئك الذين خسروا أعزّاء على قلوبهم. وككثيرين أيضًا، حملت إرث السرد السياسي للأحداث التي عصفت بلبنان، منذ أيّام الأمير فخر الدين الأوّل حتّى يومنا هذا.
ولا يخفى على أحد أنّ هذا السرد كان في الكثير من الأحيان محرّفًا، وقد جاءت صياغته بحبر التحيّز، ليس فقط باللجوء إلى شعارات فضفاضة محمّلة بالكراهية والخيانة، ولكن أيضًا بالارتكاز إلى تحليل غالبًا ما كان مغلوطًا للأحداث. ويعود السبب في ذلك إلى مجموعة من العوامل الجيوسياسية الكامنة خلف سرد هذا التاريخ. على الرغم من كلّ ذلك، ما زال لديّ «إيمان بلبنان»، بصرف النظر عن الغموض الذي يلفّ علّة وجوده.
إنّي أحلم بلبنان حديث يواكب العصر، فيه تحظى المؤسسات باحترام الشعب، وفيه شعار دولة القانون - الذي أصبح اليوم مجرّدًا من معناه - يقهر دكتاتورية «الفساد المنظّم»، يتغلّب على هذا الفساد المنظّم، الخاضع للرعاية، المتلطّي بحماية طبقة سياسية غير كفوؤة عمدت إلى تقسيم ثروات البلد واقتسامها في ما بينها على أساس الحصحصة المذهبية، ونصّبت نفسها الضمانةَ الوحيدة لسلم اجتماعيّ متداعٍ فشل في صَوْنِ كرامة الإنسان.
لا أزال، وبكلّ بساطة، أؤمن بلبنان تسمو فيه المصلحة العامة على أيّ مصلحة أخرى. هذا هو لبنان الذي نحلم به جميعنا؛ لبنان الإبداع، لبنان الذي يحلو العيش فيه، وفيه يحظى المواطن بالتقدير والاحترام، لأنّ وطنه يؤمّن له الأرضيّة الأنسب ليبلغ الانفتاح ويحقّق الذات. لبنان هذا يتمتّع بقدرة متجدّدة على إعادة إحياء نفسه.
فعلى حدّ قول فرجينيا وولف: «الحياة حلم، واليقظة هي التي تقتلنا». الحلم، مهما كان، ممكن. إنّه نواة انفتاح المجتمعات، وانفتاح الإنسان أيضًا. على كلّ منّا إذًا ألّا يتخلّى أبدًا عن حلمه، الحلم بما هو أفضل من أجل نموّنا وانفتاحنا، وكلّ ما هو عادل لوطننا. لبنان حلم بحدّ ذاته. ولو كنّا، منذ أبصرنا النور، شهودًا على النفاق والاحتيال، والشلل المؤسساتي، والتعدّي على الحريّات، وغيرها من الممارسات الفاسدة، فإنّي لا أزال مقتنعًا بأنّ «لبنان الحلم» ما زال قابلًا للتحقيق.
هذه الكلمات نداء للبنانيين جميعًا، لأقول لهم إنّه آن الأوان ألّا نكتفي بأن نحلم بالتغيير، بل أن نعمل يدًا بيد وأن نبذل كلّ الجهود لتحقيقه: هذا الحلم الذي ينسجم مع نموّنا، الذي يضمن حقوقنا الثابتة المترسّخة، الذي يبدّد شكوكنا بالغد، ويشبه أطفالنا وطموحاتهم المستقبلية، ويجعل منّا جميعنا مواطني الجمهورية اللبنانية وليس زبائن في خدمة إقطاعيّي طبقة سياسية تآكلها الفساد! أكتب هذه السطور محاولًا من خلال هذا الكتاب أن أتجاوز الأحكام المسبقة، أن أفكّك الحواجز التي بناها اللبنانيون بين بعضهم البعض ورفعوها على حساب المؤسسات، والصالح العام، والنظام العام، والعقد الاجتماعي اللبناني.
إنّ همّي واهتمامي بالعبور إلى لبنان الجديد هذا نما يومًا بعد يوم. لقد كبرتُ في لبنان ما بعد الحرب، حيث كان يُباع «حلمٌ» يحمل كلّ الآمال التي يمكن لشابّ مثلي أن يصبوَ إليها. وإذا بالتعايش أو الوفاق الداخلي، ينزل علينا بالمظلّة من «الخارج» برعاية دوليّة وفي مناخ دوليّ معيّن، مكلّلًا باتّفاق الطائف الذي وقّع عليه نوّاب لبنان بتاريخ 22 تشرين الأوّل-أكتوبر 1989، وإذا به يؤسّس للجمهورية الثانية. لم يمرّ وقت طويل قبل أن أستنتج أنّ الواقع مختلف كلّيًّا، وأنّ ممارسات الحرب الميليشياوية أصبحت الأسلوب المتّبع في لبنان ما بعد اتّفاق الطائف. الفارق أنّنا استبدلنا المدافع والرصاص باختلاس الأموال وتضارب المصالح، والمواجهة المستمرّة، في إطار اقتسام موارد الدولة وخزينتها!
من هذا المنطلق، قرّرت أن أبحث عن الحقيقة، حقيقة ما، فاخترت أن أتابع دراستي في الحقوق. وقد جمعت مخزونًا قانونيًّا استطعت من خلاله أن أفهم طريقة عمل المؤسسات، وأن أكوّن كمشاهد ومراقب رؤيةً معيّنة من أجل «لبنان معدّل بشكل ثوريّ» أو معادٍ تصميمه، إذا صحّ القول. هذه الثورة المؤسساتية، وضعتُ مفاهيمها وشكّلتُ تصوّري لها، مذ كنت على مقاعد الدراسة الجامعية، مستندًا إلى نشأة حوكمة جديدة تكون مرآة لتطلّعات اللبنانيين وتعكس مخاوفهم وطموحاتهم. ولمّا كنت على معرفة وثيقة بأسس الجمهورية اللبنانية وبتركيبة نظامها، ركّزت أبحاثي على النماذج المؤسساتية حول العالم وتعمّقت في دراستها، ووضعت مقارنة بينها وبين النظام اللبناني، وذلك بهدف تقييمها بشكل أفضل وإيجاد الحلول المناسبة. وفي خضمّ هذه الدراسة كلّها، بقي سؤال أساسيّ واحد يتصدّر أفكاري ويعود إلى الواجهة باستمرار: ما هو النظام الإداريّ الذي يتناسب مع البنية الاجتماعية في لبنان، مع العلم أنّ هذا البلد لطالما كان معرّضًا لمخاطر الهيمنة الخارجيّة.
من كتاب "الثورة المؤسّساتيّة في لبنان" الذي يوقّع عليه حكمت أبو زيد عند الخامسة من عصر اليوم الخميس في كليّة العلوم الإنسانيّة في جامعة القديس يوسف