مرتكز الحكم الصحيح في لبنان
أنطوان نجم
26 أيلول 2021 05:57
كتب انطوان نجم في موقع mtv:
البحث في تطوير أوضاع لبنان الراهنة أو تغييرها من أجل الوصول إلى حلّ جذريّ للمسألة اللبنانيّة، يفترض العودة إلى فهم تاريخ الحُكم ونوعيته في لبنان منذ إنشاء الإمارة في عهد فخر الدين المعنيّ الثاني.
إمارة هذا المعني الكبير قامت على اتّفاق ضمنيّ بين الدروز والموارنة على أساس أن يحافظ الأمير على الاستقلال الذاتيّ لكلّ طائفة. فالأمير كان حكَمًا بين "المناصِب" لا حاكمًا، بالمعنى الفعليّ للكلمة.
ولمّا اعتلى الأمير بشير الثاني سدّة الحكم، اجتهد في أن يوحّد السلطة في الإمارة في شخصه، يعاونه في ذلك جهاز إداريّ. فكان "حاكِمًا" لا حَكَمًا. وهذا هو السبب الرئيسيّللتوتّر الذي كان قائمًا بين الأمير ومعظم رؤساء الطوائف، وبنوع خاصّ بينه وبين البطريرك المارونيّ وبين الشيخ بشير جنبلاط. "فالمناصب"فقدوا صلاحياتهم في التقرير السياسيّ والرعاية المباشرة لشؤون الناس، ممّا حدَّ كثيرًا من استقلال الطوائف الذاتيّ.
لذا طُرحت مسألة السلطة العليا، أي السلطة التقريريّة في الإمارة، بعد نفْي بشير الثاني.
فقد حاول الدروز استعادة امتيازاتهم التي تناقضت لصالح مركزيّة الحكم في عهد بشير الثاني، بينما طالب الموارنة بتكريس الحكم المارونيّ من طريق تحقيق "الإنعامات المطلوبة من مولانا السلطان" وتنفيذها، والتي نصّت في بندها الثاني عشر أن يكون أمير الجبل مارونيًّا من عائلة شهاب "المُعَظَّمة". وموقف الموارنة هذا يعود إلى أنّ مارونيّة أمير الجبل تُعتبر دعمًا لوجودهم كجماعة مميّزة وتثبيتًا لإدارة شؤونهم بأنفسهم في ظلّ حكم العثمانيّين الذي يعتبرهم ذِميِّين، وبالتالي غير متساوين بمسلمي الإمبراطوريّة.
إلّا أنّ الدروز عارضوا موقف الموارنة.
ونتج عن هذين الموقفَين أنّ طُرحت مسألة هويّة الأمير المذهبيّة، وبالتالي هويّة الإمارة المذهبيّة، بالإضافة إلى مسألة وحدة السلطة في الإمارة.
وبنتيجة تصلّب مواقف الفريقَين، وقعت "الحَرَكَة الأولى" بين الموارنة والدروز، مما سهّل تدخل السلطنة العثمانيّة والدول الأجنبيّة في شؤون الجبل الداخليّة، وأدّى إلى "تدويل" المسألة اللبنانيّة وتنصيب حاكم أجنبيّ هو عمر باشا النمساوي.
لم يَرُقْ هذا التعيين للفريقَين المتخاصمَين فتلاقَيا على رفضه. ولكنّهما اضطرّا إلى الخضوع إلى تقسيم الإمارة إلى قائمقاميّة نصرانيّة، يحكمها قائمقام مسيحيّ، وقائمقاميّة درزيّة، يحكمها قائمقام درزيّ.
لكنّ هذا التدبير لم يحلّ المشكلة الأساسيّة. فالأقلّيّة الدرزيّة في قائمقاميّة النصارى شعرت بأنّها انتكبت في ذاتيّتها. وكذلك الأقلّيّة المسيحيّة في القائمقاميّة الدرزيّة. فبقي الوضع متأزمًا ومتفجّرًا من سنة 1842 إلى سنة 1860.
وما كان بروتوكول المتصرفيّة إلّا نتيجة أيضًا لتدويل المسألة اللبنانيّة.
والذي جعل نظام المتصرفيّة مقبولًا من الطرفَين على الرغم من أنّ المتصرّف مسيحيّ هو كونه، من ناحية، فُرِض فرضًا بضمانات دوليّة،وعلى نحو لم تنجح فيه محاولات نقضه والإفلات منه (حركة يوسف كرم، مثلًا)، وكونه، من ناحية ثانية، وبنوع خاصّ، ميَّع صلاحيات الحكم الأساسيّة بين المتصرّف وأعضاء مجلس الإدارة الممثِّلين الفعليّين لطوائفهم.
وجاء إنشاء لبنان الكبير ليطرح الموضوع بجدّيّة أقوى وأعمق. ذلك أنّ المسلمين، الداخلين على الرغم منهم في الدولة الجديدة، يرفضون الانتقال من حكم إسلاميّ إلى حكم يرئسه مسيحيّ. فالمسلم مؤمن بأنّ إسلامه لا يتمّ إلّا في دولة إسلاميّة، حيث التشريع إسلاميّ. وكذلك الحُكم والحاكم. وفي ضوء ذلك نفهم لماذا يعتبر المسلمون، اليوم، الميثاق الوطنيّ المعقود شفويًّاسنة 1943 (خصوصًا لجهة الضمانات التي يقدّمها) مرحليًّا، ويطالبون بتعديله.
ولا ننسى أيضًا أنّ السلطة الإكليركيّة الأرثوذكسيّة وعددًا غير قليل من أبناء الطائفة الأرثوذكسيّة كانوا ينظرون إلى الدولة اللبنانيّة الحاليّة على أنّها مارونيّة، وأنّهم فيها مواطنون غير مكتملي الحقوق.
فمِن كلّ ما تقدّم، نسمح لأنفسنا باستخلاص الحقائق الخمس الآتية:
1) الطوائف في لبنان (سواء أفي عهد الإمارة أم المتصرفية أم دولة لبنان الكبير) هي هويّاتمجتمعيّة قائمة بذاتها، ذات خلفيات دينيّةووجدانيّة واجتماعيّة وتاريخيّة مختلفة...
2) بموجب هذه الذاتيّة، ترفض كلّ طائفة، من طوائف لبنان، ما ترى فيه هيمنةَ طائفة أخرى عليها، وبالتالي سلطةَ حاكم مرفوض.
3) إنّ قبول أيّ طائفة بحاكم من غير أبنائها، إمّا لأنّه مفروض عليها، وهي غير قادرة، موقتًا، على التحرّر منه، وإمّا لأنّه لا يمارس السلطة الفعليّة في الحكم، يشكّل انتهاكًا لكرامتها الإنسانيّة.
4) لا يجوز أن يُفرض على المسلمين نظام حكميعتبرون أنّه يحدّ من ممارستهم عيشالشريعة الإسلاميّة كما هم يرونها.
5) لا يمكن المسيحيّين أن يقبلوا بأيّ نظام حكم يجعلهم ذمّيّين أو مواطنين من درجة ثانية.
لذلك نرى، أنّ الحكم، في أيّ شكل مقترح للنظام في لبنان، لا يستقيم إلّا إذا أخذت الحقائق أعلاه منطلقات له وأهدافًا. وكلّ نظام حكم يتجاهل تلك الحقائق إنّما يكون ثغرة تنفذ منها المواقف المتفجّرة.