كورونا و"السبت"

الأب ميلاد الجاويش

3/23/2020 8:13:29 AM

أسمعُ باستهجانٍ أولئك الذين يُنادون باقتراب الآخِرة، ولو كانوا من زملائي في الكهنوت. الآخِرة، لا أحد يدري متى تحين، إلاّ الله وحده بسلطانه الخاصّ. هذا كلامُ يسوع ونقطة على السطر!
الأوبئة ليست ضربات إلهيّة، وإن استشهد زملائي بآيات لا تُعَدّ من الكتاب المقدّس. وهل يكذب الأنبياء؟ الأنبياء لا يكذبون، لكن لا يمكن أن نقرأ كلامهم إلاّ في إطار الزمن الذي عاشوا فيه. الكتاب المقدّس كتاب تاريخيّ، كتبه مؤلّفوه بتعابير ومفاهيم تُوافق زمانهم. من هنا لا بدّ لي، أنا الذي يعيش في زمنٍ مغاير، أن أفسّر النصّ وأسعى وراء المعنى المبتغى. تَكِلّ عيوننا ونحن ندرس شوارد كلمة الله: زمانها، إطارها، تاريخها، ظروفها، طولها وعرضها... لكي نَفقَهَ زبدة معناها لا لكي نُطبّقها كيفما كان ونُلبسها المعنى الذي نريد نحن أن تَلبسَه.
****
كان القدماء، لإيمانهم الصميم بالله، ينسبون إلى الله كلّ شيء، الخير والشرّ على السواء. يقول سفرُ المراثي، الذي دُوّن في مرحلةِ وجع ونحيب: "أليس من فم العليّ يخرج الشرّ والخير؟" (مرا 3: 38). قول كهذا لا يمكن أن يكون عقيدة، حتّى لو نادى به الأنبياء وأتى ذكره في الكتاب المقدّس.
إعلموا أمرًا هامًّا: الكتاب المقدّس ليس "صبّة باطون" لاهوتيّة واحدة، بل فيه مفاهيم متنوّعة، متعدّدة وأحيانًا متناقضة، عن الله والحياة والخير والشرّ والألم والخطيئة... أن آخذَ صفةً واحدة وأجعل منها مفهومًا واحدًا أحدًا ومطلقًا، فهذا الخطأ بعينه.
لنأخذ مثلاً مفهوم "الله". الله، في الكتاب المقدّس، هو المحبّ، الرحمان، الرحوم، وهو الديّان، القاضي الذي يعاقب إثم الآباء في الأبناء، والمحارب، والآمر بقتل الأعداء... الله هو هذه كلّها. لماذا؟ لأنّ ما دُوِّن إنّما كان خبرة الإنسان مع الله، وخبرة الله مع الإنسان. الكتاب هو "مقدّس"، ليس لأنّه مُلهَم من الروح القدس فحسب، بل لأنّه يحوي تاريخ هذه الخبرة الحميمة بين أناس خطأة اختبروا الله ودوّنوا هذه الخبرة، بصعودها وهبوطها، في كتاب.
***
الله، كما بيّنه لنا الربّ يسوع، لا يضرب ولا يعاقب. بل هو يُشرق شمسَه على الأخيار والأشرار، ويُهطل مطره على الجميع. الوباء ليس منه، ولا المرض ولا الزلزال ولا البركان ولا حادث السيّارة... هذه أحداث لا مفرّ من وقوعها، نلقاها عند مفارق العمر وفي كلّ زمن.
لماذا هذه "الشرور"؟ لأنّ الأمر هكذا! لأنّنا ما إن خُلقنا على هذه الأرض وتلبّسنا هذا الجسد، فنحن معرَّضون لأن نمرض، صغارًا كنّا أم كبارًا. المرض جزء من المعادلة البشريّة، وكذلك الزلازل والبراكين هي جزء من معادلة الطبيعة. ومِن الشرور أيضًا ما يصنعها الإنسان نفسه، بيديه الملطّختين شجعًا وأنانيّة... لا دخل لله في هذا كلّه!
ليس عند كلّ شدّة علينا أن ننادي باقتراب الآخِرة أو نتبنّى خطابًا حادًّا نُنذر فيه المؤمنين بالويل والثبور. ماذا نقول إذن لمن عايش الحرب العالميّة الأولى والحرب العالميّة الثانية اللتين حصدتا الملايين من الضحايا؟ هل انتهى التاريخ آنذاك؟ قولوا لي: متى كانت الأيّام أقلّ شرًّا من التي نعيشها اليوم؟ متى لم تجتح الأرضَ الأوبئةُ والأمراض والحروب؟ ألم تقرؤوا عن ويلات الطاعون والملاريا والسلّ والتيفوئيد؟
****
لماذا إذن نصلّي إلى الربّ؟ نصلّي ليس لكي يردّ "غضبه" عنّا، بل لكي يساعدنا أن نتأمّل ونفهم سرّ الأشياء، أن نعرف كيف نقرأ "علامات الأزمنة". في زمن الكورونا، أُجبر أهل الأرض طرًّا أن يدخلوا مخادعهم، لقد أخلوا وجه الأرض وتركوها ساحةً للطيور والزحّافات. مشاهد خياليّة ما كنّا نحلم أن نراها!
أتى كورونا ليفرض على الأرض وناسَها "سبتًا"، وكأنّ الله يطلب من بَنيه أن "يسبتوا" قليلاً، أن يرتاحوا ويُريحوا، أن يضعوا حدًّا لأنانيّتهم واستغلالهم موارد الأرض. "السبت" شريعةٌ للحياة. هو أن تضع مسافةً بينك وبين الخليقة وتنجّيها من هيمنتك الجشعة عليها.
كورونا أراه "برّيّة" رائعة جذَبَنا ربّنا إليها. أتذكّر هنا قول الربّ الرائع كما جاء في سفر النبيّ هوشع: "هاءنذا أستغويها وآتي بها إلى البرّيّة وأخاطب قلبها" (هو 2: 16). زمن كورونا هو زمن "هادئ" يرغب فيه الربّ أن يخاطب قلب شعبه، كلّ شعبه، علّه يستقي العِبَر والأمثولات. مخاطبة لم يكن الصوم، لو أكملنا الاحتفال به كما هي العادة، ليوفّرها لنا ربّما كما وفّرها لنا كورونا.
الناس، الدول، الحكومات في غفلة، لا بل تسير مغفّلة. أتى كورونا كي يوقظنا جميعًا، ونعيد حساباتنا وطريقة حياتنا ونظرتنا إلى الأمور.
الآخِرة بعيدة، اطمئنّوا! هلمّ بنا نعملْ على تحسين حياتنا هذه، و"الباقي يزاد لنا".
All rights reserved. Copyrights © 2025 mtv.com.lb
  • أسرارهم أسرارهن
  • أخبار النجوم
  • سياسة
  • ناس
  • إقتصاد
  • فن
  • منوعات
  • رياضة
  • مطبخ
  • تكنولوجيا
  • جمال
  • مجتمع
  • محليات
  • إقليمي ودولي
  • من الصحافة
  • صحة
  • متفرقات
  • ABOUT_MTV
  • PRODUCTION
  • ADVERTISE
  • CAREERS
  • CONTACT