لبنان بلدٌ يُعاني من مُتَلازِمَة الغُموض
البروفسور مارون خاطر، باحث في الشؤون الماليَّة والإقتصاديَّة
2/28/2022 9:49:41 AM
كتب البروفسور مارون خاطر باحث في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة:
تُشَكِّلُ الشفافية والإفصاح أحد المُرتكزات الأساسيَّة للحَوكَمَة إلى جانب المساءلة والمصداقيَّة والمسؤوليَّة والعدالة. تتَّخذ الانظمة المُتحضِّرة مِنَ التَواصل وسيلةً لإنفاذ هذه المبادئ وسبيلاً لتحويلها إلى ثقافةٍ حواريةٍ ترتكز على القيَم الانسانيَّة. أما الأنظمة المُتَخَلِّفة والمُتجذِّرة في الفساد، فتُحارِب الحَوكَمَة كما الأعداء بل أكثر؛ فهي قد تتماهى حتّى مع الأعداء حينما تَغلِبُ المصالحُ القِيَم. تُعتَبَر الشفافية الغائبة الكبرى عن حياة اللبنانيين التي تَتَحَكَّم بمفاصلها سحابةٌ من الغموض القاتم تمتَدُّ من السياسة إلى القضاء مرورًا بالمال والاقتصاد. كيف لا، والسواد الأعظم من السَّاسةِ مُتَحَدِّرٌ من زَمَن الحروب والمآسي أو لا يزال يعيش فيه عالقاً في دوامةٍ لا تنتهي من الأعداء والانتصارات. يُسَخِّرُ الفساد الغموض فيجعل منه وسيلةً لقتل الحقيقة تمييعًا حينًا و طمسًا أحيانا. فبدلاً من اعتماد الحقِّ يقيناً، يُراهن المُفسِدون في الأرض على النسيان لإخفاء ظلمهم وهوانهم وتقصيرهم وعدم جِدِّيتهم وخيانتهم.
يتربع الغموض على عرش السياسة اللبنانية ليشكِّلَ مانعاً أمام التخطيط والتنفيذ. انبرى انسداد الأفق والتَلَهّي بالصغائر جزءًا لا يتجزَّأ من ثقافة اللبنانيين السياسيَّة حتى أضحت حياة الشعب وقتاً مستقطعاً بين الاستحقاقات المتلاحقة. لا مكان للشفافية بين مصطلحات السياسيين، فهم استبدلوها بما يضمن استدامة تسلُّطهم من المفردات كمثل الطائفيَّة والزبائنيَّة والنرجسيَّة المَرَضيَّة. تتعاقب الحكومات، تكثر البيانات، يَغيب الحِساب وتَتَعمَّق الهوَّة؛ فالفساد والمساءلة ضدّان لا يمكن أن يلتقيا. دَخَلت الضبابيَّة إلى بعض مواد الدستور كما أراد من عَمِلَوا على إقراره وجميع من تَبِعَهُم ممن لم يُعدلوه. ساهَمَ الالتباس المُتَعَمَّد في جعل احكام الدستور خاضعةً للتفسير وفي تحويله الى "وجهة نظر". إنطلق ترسيم الحدود، تَقَدَّمَ التفاوض ثم تراجع فجأةً وأُحيط بسريَّة تامَّة مخلفاً في العقول والنفوس ضَيماً ويأساً لن يتحول استسلامًا بل صبرًا حتى تنقضي بعض الشهور فيرحل الساديون من سكان المكاتب الرديفة واصحاب الأطماع القاتلة. تَرسُمُ الشُبهة والارتباك صورةً نَمَطيَّةً للسياسة اللبنانية تجعلها أقرب إلى إدارة ازمةٍ يفتعلها من يديرها.
في القضاء، حَوَّل الغموض الاغتيالات، منذ فجر الجمهورية وحتى تفجير المرفأ، الى ملفّات فارغة تاركاً الموتى يدفنون موتاهم في ترابٍ ارتوى من دماء ابنائه. فشلت الأجهزة القضائية الرقابيَّة في مكافحة الفساد لِعَدَم القدرة تارةً ولغياب الإرادة طوراً. الحَلُّ لا يُمكن أن يكون باستعادة ما نُهِب بل بمحاسبة من نَهَب. دَخَلَت السياسة القضاء فأفسدته غامزةً من باب الطائفية والتبعية والارتهان. مَنَعَت السياسة إقرار التشكيلات القضائية تزامناً مع مطالبتها المُلِحّة بالتحقيق الجنائي واستعدادها لبذل الغالي والنفيس من أجله. تقدَّمت استقلالية القضاء على سواها من الأشعرة وهي بالأساس مبدأ يكرسه الدستور. سَلَكَ مشروع قانون القضاء المُستَقِلّ طريقه نحو الإقرار فَتَدَخَّل الغموض بواسطة سلاطين السلطة وأزلامها فأعاده إلى المُرَبَّع الأول. يبقى السؤال: كَيف يكون التَّحقيق الجنائي طرحاً جِدِّياً إن لم تصدر تشكيلات القضائيةٌ كاملة وأن لم يُطَبَّق الدستور الذي يُكَرِّس القضاء سلطةً لا لُبس في استقلاليَّتها؟
قَد يَكون الغموض هو الحاضر الأكبر في المَلَفّ الماليّ والاقتصادي الذي لا يمكن فصله عن السياسة والقضاء. أوصَلَ انعدام الرؤية لبنان إلى القعر في مسار انحداري استمرَّ لقرابة ربع قرن من تاريخه. بين الرهان الخاسر على السلام وتمويل الفساد والفاسدين، سَقَطَ الاقتصاد وانهارت مؤسسات الدولة والمصارف. لم يَسلم إلا أموال الحُكَّام المهرَّبة عنوةً إلى الخارج بالتنسيق مع الحَسيب والرَّقيب. تَتَالت موازنات إخفاء الحقائق والتّخّفّي وراء الفذلكات وإهمال قطع الحساب، قبل أن تَختَفي كُليَّا. تحولت الوعود بتنفيذ الإصلاحات إلى طريق مختصر للولوج إلى الأموال. إلَّا أن الأخطر في كل هذا هو المحاولات المُتَكَرِّرة لاستعمال أدوات التَخَفّي والمناورة في التعامل مع المجتمع الدُّوَلي ومع الصناديق والجهات المانحة. أشعل الإبهام والإلغاز الشارع، ذَهَبَ السيئ وأتى الأسوأ، أقَرَّ خطةً تشبهه، ثُمَّ غادر على وقع الغموض الذي لَفَّ تفجير بيروت. صُنِّفت الأزمة الإقتصادية اللبنانية من بين الأقوى والأخطر في العالم وأُحصيت أغلبية اللبنانيين بين الفقراء. حان وقت مواجهة التحدِّيات! بدأ العَمَلُ على تَحديد أرقام الفَجوة الماليَّة ثم حُدِّدَت بِشكل غامض. بدأ التفاوض مع صُندوق النقد عن بعد في جلسات دون مَحَاضِر فلم يتمكَّن حتى رئيس الجمهوريَّة من الاطِّلاع على مجرياتها. أقَرَّت الحكومة الهَجينة العائدة من الاعتكاف موازنةً لا يَكتَنِفُها الغُموض فَحَسب، بَل تحتوي على طلاسِمَ سحرية كأنما وضعت لكي لا يستطيع صُندوق النَّقد حلَّها.
أصابت عدوى الغموض وعَدَم الإفصاح صندوق النَّقد ذاته في ما خَصَّ الملف اللبناني، إذ أعلنت مصادر رفيعة في الصندوق في جلسة خاصَّة، أنَّ التفاوض مع لبنان لن يدخل مراحل متقدمة قبل العام ٢٠٢٣ أي بعد الاستحقاق الرئاسي. بذلك تكون حلقة الغموض قَد اكتملت وأصبح تمريرُ الوقت واقعاً تُثبته الوقائع.
نسأل ختاماً،
كيف يُمكن لحكومةٍ أن تجد حلاً لأزمة وطنيةٍ بحجم أزمة لبنان ما لم تُصارح شَعبَها واضعةً أمامه جميع الوقائع؟
كيف تَسمَحُ حكومةٌ تُمَثِّل الشَّعب لنفسها اعتماد المناورة والمماحكة في التعامل مع المؤسسات الدُّوَلية كصُندوق النَّقد الدَولي؟
لا بدَّ أن يكون باطلاً ما يُبنى على باطل!
يعاني لبنان داءَ "غياب الشفافية" وهو مرضٌ قاتل يسببه الفساد ويؤدي إلى حالٍ من الغموض المُتَحَكِّم...
أمَّا علاجه فواحد...التغيير!
تُشَكِّلُ الشفافية والإفصاح أحد المُرتكزات الأساسيَّة للحَوكَمَة إلى جانب المساءلة والمصداقيَّة والمسؤوليَّة والعدالة. تتَّخذ الانظمة المُتحضِّرة مِنَ التَواصل وسيلةً لإنفاذ هذه المبادئ وسبيلاً لتحويلها إلى ثقافةٍ حواريةٍ ترتكز على القيَم الانسانيَّة. أما الأنظمة المُتَخَلِّفة والمُتجذِّرة في الفساد، فتُحارِب الحَوكَمَة كما الأعداء بل أكثر؛ فهي قد تتماهى حتّى مع الأعداء حينما تَغلِبُ المصالحُ القِيَم. تُعتَبَر الشفافية الغائبة الكبرى عن حياة اللبنانيين التي تَتَحَكَّم بمفاصلها سحابةٌ من الغموض القاتم تمتَدُّ من السياسة إلى القضاء مرورًا بالمال والاقتصاد. كيف لا، والسواد الأعظم من السَّاسةِ مُتَحَدِّرٌ من زَمَن الحروب والمآسي أو لا يزال يعيش فيه عالقاً في دوامةٍ لا تنتهي من الأعداء والانتصارات. يُسَخِّرُ الفساد الغموض فيجعل منه وسيلةً لقتل الحقيقة تمييعًا حينًا و طمسًا أحيانا. فبدلاً من اعتماد الحقِّ يقيناً، يُراهن المُفسِدون في الأرض على النسيان لإخفاء ظلمهم وهوانهم وتقصيرهم وعدم جِدِّيتهم وخيانتهم.
يتربع الغموض على عرش السياسة اللبنانية ليشكِّلَ مانعاً أمام التخطيط والتنفيذ. انبرى انسداد الأفق والتَلَهّي بالصغائر جزءًا لا يتجزَّأ من ثقافة اللبنانيين السياسيَّة حتى أضحت حياة الشعب وقتاً مستقطعاً بين الاستحقاقات المتلاحقة. لا مكان للشفافية بين مصطلحات السياسيين، فهم استبدلوها بما يضمن استدامة تسلُّطهم من المفردات كمثل الطائفيَّة والزبائنيَّة والنرجسيَّة المَرَضيَّة. تتعاقب الحكومات، تكثر البيانات، يَغيب الحِساب وتَتَعمَّق الهوَّة؛ فالفساد والمساءلة ضدّان لا يمكن أن يلتقيا. دَخَلت الضبابيَّة إلى بعض مواد الدستور كما أراد من عَمِلَوا على إقراره وجميع من تَبِعَهُم ممن لم يُعدلوه. ساهَمَ الالتباس المُتَعَمَّد في جعل احكام الدستور خاضعةً للتفسير وفي تحويله الى "وجهة نظر". إنطلق ترسيم الحدود، تَقَدَّمَ التفاوض ثم تراجع فجأةً وأُحيط بسريَّة تامَّة مخلفاً في العقول والنفوس ضَيماً ويأساً لن يتحول استسلامًا بل صبرًا حتى تنقضي بعض الشهور فيرحل الساديون من سكان المكاتب الرديفة واصحاب الأطماع القاتلة. تَرسُمُ الشُبهة والارتباك صورةً نَمَطيَّةً للسياسة اللبنانية تجعلها أقرب إلى إدارة ازمةٍ يفتعلها من يديرها.
في القضاء، حَوَّل الغموض الاغتيالات، منذ فجر الجمهورية وحتى تفجير المرفأ، الى ملفّات فارغة تاركاً الموتى يدفنون موتاهم في ترابٍ ارتوى من دماء ابنائه. فشلت الأجهزة القضائية الرقابيَّة في مكافحة الفساد لِعَدَم القدرة تارةً ولغياب الإرادة طوراً. الحَلُّ لا يُمكن أن يكون باستعادة ما نُهِب بل بمحاسبة من نَهَب. دَخَلَت السياسة القضاء فأفسدته غامزةً من باب الطائفية والتبعية والارتهان. مَنَعَت السياسة إقرار التشكيلات القضائية تزامناً مع مطالبتها المُلِحّة بالتحقيق الجنائي واستعدادها لبذل الغالي والنفيس من أجله. تقدَّمت استقلالية القضاء على سواها من الأشعرة وهي بالأساس مبدأ يكرسه الدستور. سَلَكَ مشروع قانون القضاء المُستَقِلّ طريقه نحو الإقرار فَتَدَخَّل الغموض بواسطة سلاطين السلطة وأزلامها فأعاده إلى المُرَبَّع الأول. يبقى السؤال: كَيف يكون التَّحقيق الجنائي طرحاً جِدِّياً إن لم تصدر تشكيلات القضائيةٌ كاملة وأن لم يُطَبَّق الدستور الذي يُكَرِّس القضاء سلطةً لا لُبس في استقلاليَّتها؟
قَد يَكون الغموض هو الحاضر الأكبر في المَلَفّ الماليّ والاقتصادي الذي لا يمكن فصله عن السياسة والقضاء. أوصَلَ انعدام الرؤية لبنان إلى القعر في مسار انحداري استمرَّ لقرابة ربع قرن من تاريخه. بين الرهان الخاسر على السلام وتمويل الفساد والفاسدين، سَقَطَ الاقتصاد وانهارت مؤسسات الدولة والمصارف. لم يَسلم إلا أموال الحُكَّام المهرَّبة عنوةً إلى الخارج بالتنسيق مع الحَسيب والرَّقيب. تَتَالت موازنات إخفاء الحقائق والتّخّفّي وراء الفذلكات وإهمال قطع الحساب، قبل أن تَختَفي كُليَّا. تحولت الوعود بتنفيذ الإصلاحات إلى طريق مختصر للولوج إلى الأموال. إلَّا أن الأخطر في كل هذا هو المحاولات المُتَكَرِّرة لاستعمال أدوات التَخَفّي والمناورة في التعامل مع المجتمع الدُّوَلي ومع الصناديق والجهات المانحة. أشعل الإبهام والإلغاز الشارع، ذَهَبَ السيئ وأتى الأسوأ، أقَرَّ خطةً تشبهه، ثُمَّ غادر على وقع الغموض الذي لَفَّ تفجير بيروت. صُنِّفت الأزمة الإقتصادية اللبنانية من بين الأقوى والأخطر في العالم وأُحصيت أغلبية اللبنانيين بين الفقراء. حان وقت مواجهة التحدِّيات! بدأ العَمَلُ على تَحديد أرقام الفَجوة الماليَّة ثم حُدِّدَت بِشكل غامض. بدأ التفاوض مع صُندوق النقد عن بعد في جلسات دون مَحَاضِر فلم يتمكَّن حتى رئيس الجمهوريَّة من الاطِّلاع على مجرياتها. أقَرَّت الحكومة الهَجينة العائدة من الاعتكاف موازنةً لا يَكتَنِفُها الغُموض فَحَسب، بَل تحتوي على طلاسِمَ سحرية كأنما وضعت لكي لا يستطيع صُندوق النَّقد حلَّها.
أصابت عدوى الغموض وعَدَم الإفصاح صندوق النَّقد ذاته في ما خَصَّ الملف اللبناني، إذ أعلنت مصادر رفيعة في الصندوق في جلسة خاصَّة، أنَّ التفاوض مع لبنان لن يدخل مراحل متقدمة قبل العام ٢٠٢٣ أي بعد الاستحقاق الرئاسي. بذلك تكون حلقة الغموض قَد اكتملت وأصبح تمريرُ الوقت واقعاً تُثبته الوقائع.
نسأل ختاماً،
كيف يُمكن لحكومةٍ أن تجد حلاً لأزمة وطنيةٍ بحجم أزمة لبنان ما لم تُصارح شَعبَها واضعةً أمامه جميع الوقائع؟
كيف تَسمَحُ حكومةٌ تُمَثِّل الشَّعب لنفسها اعتماد المناورة والمماحكة في التعامل مع المؤسسات الدُّوَلية كصُندوق النَّقد الدَولي؟
لا بدَّ أن يكون باطلاً ما يُبنى على باطل!
يعاني لبنان داءَ "غياب الشفافية" وهو مرضٌ قاتل يسببه الفساد ويؤدي إلى حالٍ من الغموض المُتَحَكِّم...
أمَّا علاجه فواحد...التغيير!