الكنيسة صنعت الإستقلال الثاني بخطابها الوطني لا المسيحي
01/01/0001
إذا استثنينا رد فعل البطريرك السابق نصرالله صفير في ربيع 2005 على قانون الألفين تحت عنوان «الدستور أعطانا 64 نائبا ونريد 64 نائبا»، تكاد مواقفه وبياناته تخلو من أي مطالب مسيحية إلا في سياق تسليط الضوء على الاستهداف المسيحي المبرمج لإبقاء لبنان أسيرا.
ان رد فعل البطريرك صفير حينذاك كان مبررا على رغم تسارع وتيرة الأحداث ودخول البلاد في مرحلة جديدة لم تكن القوى السياسية مهيّئة لمواكبتها وتحديد خطة واضحة للتعامل معها، وبالتالي كان من الطبيعي أن يعبر عن امتعاضه من تحييد بكركي عن رسم معالم هذه المرحلة، خصوصا بعد الدور الطليعي الذي أدّته للوصول إلى لحظة الاستقلال الثاني، وهذا ما دفعه بعدها إلى الانكفاء لمرحلة طويلة.
ولكن باستثناء هذه المحطة، إن أي مراجعة لمواقفه وتحديدا للنداءات الأيلولية الخمسة التي سبقت الانسحاب السوري من لبنان وما صدر من أعمال وأوراق وبيانات ومبادرات بدءاً من السينودس من أجل لبنان مروراً بالإرشاد الرسولي وصولاً إلى المجمّع الماروني وثوابت الكنيسة المارونية، تظهر أن لا أولوية لدى بكركي تعلو على الحرية والسيادة والاستقلال والعيش المشترك.
وللمفارقة أن الكنيسة التي كان لها المساهمة الأساسية في الوصول إلى لبنان الكبير ومن ثم اتفاق الطائف وأخيراً انتفاضة الاستقلال وإخراج الجيش السوري، لم تتدخل في تفاصيل الحياة الدستورية والسياسية، إنما تركت للسياسيين تحديد الصيَغ الأفضل والأنسب التي تنسجم مع رؤيتها لفلسفة الكيان اللبناني.
ولعلّ المشترك بين كل الأوراق والنصوص الرسمية يتلخص بثلاثة عناصر بنيوية: الحرية، العيش المشترك والدولة. وقد خطّت الكنيسة خطوة متقدمة جدا في هذا المجال إلى حد اعتبار أن "العيش المشترك يحتاج إلى دولة مدنية، ديموقراطية وحديثة، قائمة على التوفيق بين المواطنية والتعددية".
ولا مغالاة في القول بالمقابل إنه إذا كان من منطلقات فكرية للثورات العربية فهي من دون شك مستمدة من فكر الكنيسة بالذات عبر رفعها قيم الحرية والمساواة والعدالة، كما دعوتها المسيحيين في لبنان إلى رسم مستقبل مشترك لهم وللجماعات الأخرى "يقوم على المبادئ التي تؤمن للإنسان حريته وتحفظ كرامته وتوفر له العيش الكريم".
وفي موازاة ذلك تتركز البنود السبعة في وثيقة "ثوابت الكنيسة المارونية" على الآتي: الحرية، العيش المشترك، الديموقراطية التوافقية، نهائية الكيان اللبناني، التمسك بقرارات الشرعية الدولية، الحفاظ على الدولة اللبنانية والإلحاح على تطبيق اتفاق الطائف بكل بنوده. فكل أدبيات الكنيسة المارونية تتمحور حول الفكرة اللبنانية القائمة على الحرية التي تتصدر كل الثوابت الأخرى، كون لا حرية في غياب السيادة والدولة والسلاح غير الشرعي.
فلو رفعت الكنيسة مطالب مسيحية عشية الاستحقاقات المفصلية، لبنان الكبير واتفاق الطائف وانتفاضة الاستقلال، لما نجحت في إرساء الصيغة الفريدة التي يقوم عليها لبنان، لا بل معرفتها العميقة بأن الخلاص الوطني لا يتحقق عن طريق فئة من اللبنانيين، بل على يد كل اللبنانيين هو الذي جعلها في كل الأوقات ترفع عناوين وطنية لا فئوية.
ففي النداء الأيلولي الخامس المؤرخ في 1 أيلول 2004 جاء حرفياً: "وكلما تقارب فريق إسلامي من فريق مسيحي، أو تلاقت جماعة مسيحية وجماعة إسلامية، جاء من يفرّق بينها بالتهديد والوعيد، وهذا ما يحول دون قيام مصالحة شاملة تعيد الناس بعضهم إلى بعض". فلا يوجد أوضح من هذا الكلام حول أن التلاقي المسيحي - الإسلامي هو "الوصفة" للخلاص الوطني، هذا التلاقي الذي حالت دونه سوريا لإدامة سيطرتها على لبنان.
إن كل ما تقدم يؤكد أن الأولوية في كل النصوص المرجعية للكنيسة هي للثوابت الوطنية، لأن تحقيقها هو مصلحة مسيحية بالدرجة الأولى. وبالتالي، فإنّ مهمة المسيحيين هي في توفير الإجماع الوطني حول هذه العناوين التي يجب أن يكون التمحور السياسي حولها.
فالفيصل في معركة الانتخابات النيابية ليس القانون الذي يحاول التيار العوني المزايدة والمغالاة في تصوير نفسه مدافعاً عن حقوق المسيحيين تبريراً لتحالفه مع الطرف الذي يشكل نقيضاً لكل ثوابت الكنيسة، إنما في العنوان السياسي لهذه المعركة، إذ ماذا ينفع المسيحيون إذا أوصلوا 64 نائبا بأصواتهم وفاز "حزب الله" في الانتخابات، مع كل ما يعني ذلك من إبقاء الدولة معلقة والسيادة مستباحة ولبنان رهينة بيد إيران، فضلاً عن أن قوة المسيحيين هي في إعلاء ثوابتهم الوطنية التي قام عليها لبنان، ومصلحتهم تكمن في المعادلة الآتية: بقدر ما تكون أهدافهم وطنية بقدر ما يكسبون مسيحياً، وبقدر ما تكون أهدافهم مسيحية بقدر ما يخسرون وطنياً.