السلام بالقوّة… عندما يتحوّل الردع إلى فلسفة حكم

جو رحال

10/18/2025 8:57:23 AM

 

في عالمٍ يزداد اضطرابًا كلّ يوم، يعود الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الواجهة حاملًا شعارًا قديمًا بثوبٍ جديد: "السلام بالقوّة". عبارة تختصر عقيدة سياسية تعتبر أن الاستقرار لا يتحقق بالمفاوضات أو النوايا الحسنة، بل بميزان الردع والخشية من القوّة. فترامب، في رؤيته الصريحة، لا يرى في الدبلوماسية أداةً للسلام بقدر ما يراها نتيجةً لتفوّقٍ عسكريّ قادر على فرض الشروط قبل أي حوار.

هذا المفهوم ليس وليد اللحظة. جذوره تعود إلى المقولة اللاتينية الشهيرة: "إذا أردت السلام فاستعدّ للحرب"، التي تحوّلت على مرّ القرون إلى مبدأ استراتيجي اعتمدته الإمبراطوريات الكبرى لتبرير سباقها نحو التسلّح. وفي العصر الحديث، تبناه الرئيس الأميركي رونالد ريغان في مواجهة الاتحاد السوفياتي، حين رفع شعار "Peace Through Strength"، معتبرًا أن التراجع العسكري يُغري العدوّ، وأن الردع وحده يحمي السلم الدولي.

أمّا ترامب، فقد أعاد إحياء المصطلح لكن بروحٍ مختلفة. فهو لا يتحدث عن توازنٍ عالميّ بقدر ما يتحدث عن سلامٍ تفرضه الولايات المتحدة من موقع القوّة. ففي خطاب تنصيبه، أكّد أن نجاح إدارته سيُقاس "بعدد الحروب التي تمنعها، لا تلك التي تخوضها"، معلنًا بذلك فلسفةً تقوم على الردع الوقائيّ، لا على التفاهمات. وقد ترجمها عمليًا في تعامله مع إيران وكوريا الشمالية وروسيا، حين جعل من الضغط العسكري والاقتصادي وسيلة لإجبار الخصوم على التراجع أو القبول بشروطه.

لكن خلف هذا الخطاب المعبّأ بالثقة، تختبئ معادلة أكثر تعقيدًا: فـ "السلام بالقوّة" لا يصنع بالضرورة سلامًا دائمًا، بل يفرض هدوءًا موقتًا محكومًا بالخوف. إذ إن الردع، مهما بلغ من صلابة، لا يعالج جذور الصراع، بل يجمّدها إلى حين تغيّر موازين القوى. والتاريخ السياسي حافلٌ بالأمثلة: فكم من هدنةٍ استندت إلى الردع انتهت بانفجارٍ أكبر حين زال ميزان القوّة أو تبدّل الحلفاء؟

في الشرق الأوسط، تبدو هذه المعادلة أكثر هشاشةً من أي مكانٍ آخر. فهنا تتشابك السياسة بالهوية، والدين بالذاكرة، والمظلومية بالواقع المعيشي. لذلك، فإن أي "سلام بالقوة" لا يمكنه الصمود طويلًا في بيئةٍ تُخفي تحت الرماد براكين من الغضب والشكّ. فالقوّة قد تفرض الصمت، لكنها لا تولّد القناعة، ولا تبني الثقة التي تشكّل جوهر الاستقرار الحقيقي.

ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن امتلاك القوّة يظلّ شرطًا ضروريًا لأيّ سياسة خارجية ناجحة. فالردع الرشيد يمنع الحروب، ويُكسب المفاوض قوّة تفاوضية كبرى. غير أن الخط الفاصل بين الردع المشروع والهيمنة المفرطة رفيعٌ جدًا. فعندما تتحوّل القوّة من وسيلة حماية إلى أداة فرض، يتراجع معنى السلام، ويُستبدَل ميزان العدالة بميزان الخوف. عندها، يصبح "السلام بالقوة" شعارًا لتبرير السيطرة، لا لضمان الاستقرار.

اللافت أن ترامب لم يبتكر المفهوم بقدر ما أعاد تسويقه ضمن سياقٍ انتخابيّ أميركي يُقدّس فكرة "العظمة" ويخشى الضعف. فهو يخاطب ناخبًا يريد أن يرى في واشنطن سلطةً لا تُنازع، وجيشًا لا يُقهر، ودولةً تفرض إرادتها لا تُساوم عليها. إلّا أن التجربة تُظهر أن القوّة المفرطة قد تنجح في إخضاع الخصوم، لكنها نادرًا ما تخلق حلفاء حقيقيين.

إن "السلام بالقوة" فلسفةٌ تحمل بُعدين متناقضين: فهي في ظاهرها حماية، وفي باطنها تهديد. قد تُنتج استقرارًا موقتا، لكنها تزرع بذور اضطرابٍ قادم. والتحدّي الحقيقي أمام ترامب، وسائر القادة الذين يتبنون هذا النهج، هو أن يُثبتوا أن القوّة يمكن أن تكون ضمانةً للسلام لا عباءةً للهيمنة. فالقوّة التي تُستخدم بحكمة تصنع الاحترام، أما التي تُستخدم بلا ضوابط فتخلّف الخوف، والخوف لا يبني سلامًا، بل هدنةً بانتظار الحرب التالية.

السلام الذي يُبنى على الخوف قد يعيش… لكنه لا يدوم.

All rights reserved. Copyrights © 2025 mtv.com.lb
  • أسرارهم أسرارهن
  • أخبار النجوم
  • سياسة
  • ناس
  • إقتصاد
  • فن
  • منوعات
  • رياضة
  • مطبخ
  • تكنولوجيا
  • جمال
  • مجتمع
  • محليات
  • إقليمي ودولي
  • من الصحافة
  • صحة
  • متفرقات
  • ABOUT_MTV
  • PRODUCTION
  • ADVERTISE
  • CAREERS
  • CONTACT