العدالة حين تشتكي
الأب الياس كرم
10/25/2025 8:36:11 AM
في وطنٍ تهاوت فيه الثقة بالمؤسسات، يبقى القضاء الملاذ الأخير للمواطن البسيط، ذاك الذي يتشبّث بخيط العدالة الرفيع. لكن، ماذا لو انقطع هذا الخيط؟ ماذا لو لم يعد المظلوم هو من يلجأ إلى القاضي، بل القاضي نفسه هو من يرفع الصوت مستنجدًا؟ وماذا لو أصبحت صرخات أهل العدالة، لا تطلب إنصاف الناس، بل تنشد إنصافًا لهم من ظلمٍ أتاهم من فوقهم؟
القضاء، في منظومته الدينية والاجتماعية، ليس مجرد سلطة إدارية أو وظيفة رسمية. إنه مرآة الحق، وسقف العدالة، وصورة الله في أحكام البشر. في العهد القديم، عندما ضاق شعب الله بالظلم، أقام لهم الرب قضاة من بينهم، يقضون بشريعته ويقودونهم نحو الخلاص:
"فَأَقامَ الرَّبُّ قُضاةً فَخَلَّصوهُمْ مِنْ أَيدِيِ مَنْ قَهَرُوهُم" (قضاة ٢: ١٦).
من هنا، لم تكن السلطة القضائية يومًا شأنًا أرضيًا صرفًا، بل دعوة لخدمة الحق. وقد لخّص السيد المسيح هذه الحقيقة بقوله لبيلاطس:
"لَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيَّ سُلْطَانٌ الْبَتَّةَ، لَوْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُعْطِيتَ مِنْ فَوْقُ" (يوحنا ١٩: ١١).
أما في لبنان اليوم، فلم تعد الانتقادات تقتصر على تأخّر العدالة أو بطء المحاكمات، بل تجاوزتها إلى جرحٍ أعمق: تسييس القضاء، تهميش الكفاءات، واستهداف القضاة لأسباب تتجاوز القانون والعدالة، على ما جاء في الصحف.
في خانة "أسرار الآلهة" في صحيفة النهار (١٥ آب)، ورد أن قضاة عبّروا عن امتعاضهم من ظلمٍ طالهم في التشكيلات القضائية الأخيرة، حيث تم ترفيع قضاة أقل درجة وخبرة إلى مواقع حساسة، فيما تم تهميش آخرين. وفي صحيفة اللواء (١٠ أيلول)، كشف مصدر عن إحالة قضاة بارزين إلى "التصرف" دون تبرير، وكأن العدالة نفسها باتت محل شكوى.
السؤال الجوهري هنا:
إذا كان القاضي يُظلَم، فمن ينصفه؟
وإذا كانت مرجعياته السياسية أو الدينية لا تصون موقعه، فكيف يُطلب منه صون حقوق الناس؟
علمًا أن مرجعه الأصيل يجب أن يكون القانون والضمير، ولا سلطان يعلو عليهما.
وفي سياق متّصل، نشرت النهار (٢٩ أيلول) أن زيارات القضاة إلى المرجعيات السياسية والدينية تراجعت بعد صدور التشكيلات، في إشارة، برأي، إلى شعور بالإحباط أو القطيعة. أما صحيفة الجمهورية (٢ تشرين الأول)، فكشفت عن قاضٍ كبير توفي إثر أزمة قلبية حادة، بعد أن عبّر بمرارة أمام زملائه عن استيائه من تشكيلات لم تنصفه، وقيل إنه قال: "قلبي رح يفقع" — وقد كان ذلك آخر ما قاله.
وفي النهار مجددًا (٩ تشرين الأول ٢٠٢٥)، ورد أن مجلس القضاء الأعلى لم يراعِ في تشكيلاته أوضاع قضاة يعانون أمراضًا مستعصية، ورفض نقلهم إلى أماكن قريبة من سكنهم، ما دفع اثنين منهم إلى الاستقالة.
الخطير في هذه المشهدية أن اهتزاز صورة القاضي لا يسيء إلى شخصه فحسب، بل يضرب ثقة الناس بمنظومة العدالة برمّتها. فإذا شعر المواطن أن القاضي خاضع أو مُقصى أو مضطهد، فلن تبقى للمحكمة هيبة، ولن يبقى للعدل معنى.
صحيح أن ما نقرأه حتى الآن يبقى في إطار ما تنقله الصحف، لكنه يعكس قلقًا حقيقيًا لا يمكن تجاهله.
ورغم كل هذا السواد، يبقى الرجاء معلّقًا على قضاة يعرفون أن سلطانهم لا يأتي من سياسي أو مرجعية دينية، بل من الله. قضاة يستقون من ضميرهم لا من موازين القوى، ويعون أن العدالة رسالة، وإن كان ثمنها باهظًا، فهي لا تُشترى ولا تُباع. إنهم الحراس الحقيقيون لهيكل العدالة.
وهنا نستذكر تصريح فخامة الرئيس العماد جوزاف عون، خلال جولته الأخيرة على الهيئات الرقابية، حيث قال: "لا بد من ممارسة الرقابة القضائية باستقلالية تامة ونزاهة مطلقة، فأنتم حصن المال العام الأخير. ويجب الإسراع في البتّ بملفات الهدر والمخالفات المالية، فالعدالة البطيئة ليست عدالة". يمكننا التعويل، في هذا السياق، على جرأة معالي وزير العدل الأستاذ عادل نصار وحكمة رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود.
بالمحصلة، نحن لا نطلب قضاة خارقين، بل قضاة نزيهين. لا نحلم بمحاكم مثالية، بل بمحاكم عادلة. لا نطمح إلى قضاء سماوي، بل إلى قضاء أرضي يعلم أن سلطته من فوق ومسؤوليته تجاه من هم تحته.
إنه رجاء بقضاء لا يشتكي، بل يُشكى إليه.
فـالشكوى لغير الله مذلّة.
القضاء، في منظومته الدينية والاجتماعية، ليس مجرد سلطة إدارية أو وظيفة رسمية. إنه مرآة الحق، وسقف العدالة، وصورة الله في أحكام البشر. في العهد القديم، عندما ضاق شعب الله بالظلم، أقام لهم الرب قضاة من بينهم، يقضون بشريعته ويقودونهم نحو الخلاص:
"فَأَقامَ الرَّبُّ قُضاةً فَخَلَّصوهُمْ مِنْ أَيدِيِ مَنْ قَهَرُوهُم" (قضاة ٢: ١٦).
من هنا، لم تكن السلطة القضائية يومًا شأنًا أرضيًا صرفًا، بل دعوة لخدمة الحق. وقد لخّص السيد المسيح هذه الحقيقة بقوله لبيلاطس:
"لَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيَّ سُلْطَانٌ الْبَتَّةَ، لَوْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُعْطِيتَ مِنْ فَوْقُ" (يوحنا ١٩: ١١).
أما في لبنان اليوم، فلم تعد الانتقادات تقتصر على تأخّر العدالة أو بطء المحاكمات، بل تجاوزتها إلى جرحٍ أعمق: تسييس القضاء، تهميش الكفاءات، واستهداف القضاة لأسباب تتجاوز القانون والعدالة، على ما جاء في الصحف.
في خانة "أسرار الآلهة" في صحيفة النهار (١٥ آب)، ورد أن قضاة عبّروا عن امتعاضهم من ظلمٍ طالهم في التشكيلات القضائية الأخيرة، حيث تم ترفيع قضاة أقل درجة وخبرة إلى مواقع حساسة، فيما تم تهميش آخرين. وفي صحيفة اللواء (١٠ أيلول)، كشف مصدر عن إحالة قضاة بارزين إلى "التصرف" دون تبرير، وكأن العدالة نفسها باتت محل شكوى.
السؤال الجوهري هنا:
إذا كان القاضي يُظلَم، فمن ينصفه؟
وإذا كانت مرجعياته السياسية أو الدينية لا تصون موقعه، فكيف يُطلب منه صون حقوق الناس؟
علمًا أن مرجعه الأصيل يجب أن يكون القانون والضمير، ولا سلطان يعلو عليهما.
وفي سياق متّصل، نشرت النهار (٢٩ أيلول) أن زيارات القضاة إلى المرجعيات السياسية والدينية تراجعت بعد صدور التشكيلات، في إشارة، برأي، إلى شعور بالإحباط أو القطيعة. أما صحيفة الجمهورية (٢ تشرين الأول)، فكشفت عن قاضٍ كبير توفي إثر أزمة قلبية حادة، بعد أن عبّر بمرارة أمام زملائه عن استيائه من تشكيلات لم تنصفه، وقيل إنه قال: "قلبي رح يفقع" — وقد كان ذلك آخر ما قاله.
وفي النهار مجددًا (٩ تشرين الأول ٢٠٢٥)، ورد أن مجلس القضاء الأعلى لم يراعِ في تشكيلاته أوضاع قضاة يعانون أمراضًا مستعصية، ورفض نقلهم إلى أماكن قريبة من سكنهم، ما دفع اثنين منهم إلى الاستقالة.
الخطير في هذه المشهدية أن اهتزاز صورة القاضي لا يسيء إلى شخصه فحسب، بل يضرب ثقة الناس بمنظومة العدالة برمّتها. فإذا شعر المواطن أن القاضي خاضع أو مُقصى أو مضطهد، فلن تبقى للمحكمة هيبة، ولن يبقى للعدل معنى.
صحيح أن ما نقرأه حتى الآن يبقى في إطار ما تنقله الصحف، لكنه يعكس قلقًا حقيقيًا لا يمكن تجاهله.
ورغم كل هذا السواد، يبقى الرجاء معلّقًا على قضاة يعرفون أن سلطانهم لا يأتي من سياسي أو مرجعية دينية، بل من الله. قضاة يستقون من ضميرهم لا من موازين القوى، ويعون أن العدالة رسالة، وإن كان ثمنها باهظًا، فهي لا تُشترى ولا تُباع. إنهم الحراس الحقيقيون لهيكل العدالة.
وهنا نستذكر تصريح فخامة الرئيس العماد جوزاف عون، خلال جولته الأخيرة على الهيئات الرقابية، حيث قال: "لا بد من ممارسة الرقابة القضائية باستقلالية تامة ونزاهة مطلقة، فأنتم حصن المال العام الأخير. ويجب الإسراع في البتّ بملفات الهدر والمخالفات المالية، فالعدالة البطيئة ليست عدالة". يمكننا التعويل، في هذا السياق، على جرأة معالي وزير العدل الأستاذ عادل نصار وحكمة رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود.
بالمحصلة، نحن لا نطلب قضاة خارقين، بل قضاة نزيهين. لا نحلم بمحاكم مثالية، بل بمحاكم عادلة. لا نطمح إلى قضاء سماوي، بل إلى قضاء أرضي يعلم أن سلطته من فوق ومسؤوليته تجاه من هم تحته.
إنه رجاء بقضاء لا يشتكي، بل يُشكى إليه.
فـالشكوى لغير الله مذلّة.