مدرسة الاستقامة
الأب الياس كرم
11/1/2025 8:36:26 AM
لم يبخل الله يومًا على شعبه بكلمته أو بركته. فمنذ فجر التكوين، كانت كلمته ترافق الخليقة، تنير درب الإنسان وتعضده في مسيرته حتى انقضاء الدهر. وهو القائل: «وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ. آمِينَ.» (متى ٢٨: ٢٠)
فإن كان الله معنا، فلا خوف في قلوبنا، بل إيمانٌ وثقةٌ نسير بهما لنتمّم وصاياه، بل ونبشّر الآخرين بمحبّته العظيمة.
منذ العهد القديم، أفيضت على البشرية الوصايا العشر، وكان من بينها وصية فريدة ختمها الله بوعدٍ: «أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ.» (خروج ٢٠: ١٢).
جاءت هذه الوصية الخامسة في مطلع الوصايا التي تنظم علاقتنا بالآخرين، فكانت الإكرام للوالدين أسبق من النهي عن القتل أو الزنا. وهي الوصية الوحيدة المقترنة بمكافأة، كما أكد الرسول بولس بقوله: «أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ الَّتِي هِيَ أَوَّلُ وَصِيَّةٍ بِوَعْدٍ.» (أفسس ٦: ٢)
وكتب بولس أيضًا مخاطبًا الأبناء: «أَيُّهَا الأَوْلادُ، أَطِيعُوا وَالِدَيْكُمْ فِي الرَّبِّ، لأَنَّ هذَا حَقٌّ.» (أفسس ٦: ١).
فالطاعة للوالدين، ما دامت لا تناقض مشيئة الله، هي طاعة للمسيح نفسه، لأن من يرفضها إنما يرفض الحق، ويختار الشر.
إكرام الوالدين لا يقتصر على خدمتهم، بل يشمل الإصغاء إلى حكمتهم، والتتلمذ على توجيههم، والاستنارة بخبرتهم وأخلاقهم. فالوالدان هما أول معلّمين يغرس الله فيهما بذور الإرشاد، ومن يحسن الإصغاء إليهما يجني ثمار الفهم والتبصّر والرزانة. لكن قلّة من الأبناء تدرك قيمة هذه النِعَم إلا حين ينضجون، فيكتشفون أن كلمات الأم وأفعال الأب كانت ذخيرة حياة. وهذا ما اختبرته شخصيًا، إذ ما زلت أعود إلى ما قالته أمي وما صنعه أبي فأجد فيه زادًا للطريق.
قبل أيام، شاركت في احتفال تكريمي لوالد نقيب المحامين في بيروت، الأستاذ فادي خليل مصري. وبين الكلمات التي أُلقيت، لامست قلبي عبارة قالها النقيب مصري عن والده: «مدرسة الاستقامة.»
توقفت عندها طويلًا، لأنني أدركت عمقها. فقد كان والده مثالًا للرجل الذي يرى في النجاح ثمرةً طيبة، لكنّ الاستمرار في النجاح هو البرهان الحقيقي على ثبات الخطى وصحة المسار.
المدرسة، في رسالتها التربوية، تُعِدُّ الإنسان لمواجهة تحديات الحياة، وتزوّده بالعلم ليكسب عيشه ويساهم في بناء المجتمع. أما الاستقامة، فهي لا تُكتسب من الكتب، بل من جرن المعمودية، ومن البيت الأول، حيث تُزرع القيم في القلوب قبل أن تُنقش في العقول.
الاستقامة تبدأ من التربية الصالحة، من والدين يعيشان ما يعلّمان، فينقلان إلى أبنائهما مبادئ النزاهة، وضبط النفس، والمثابرة، والتواضع، والالتزام الأخلاقي. إنها مدرسة الحياة الحقيقية، التي تهيئ الإنسان للنجاح المهني والاجتماعي والروحي، وتمنحه سلام القلب وطمأنينة الضمير.
ولكي نكون من خرّيجي مدرسة الاستقامة، لا بدّ من تحديد أهداف واضحة، والسعي إلى التعلم المستمر، مع الموازنة بين الطموح الشخصي والالتزام بالقيم الروحية والإنسانية. فبذلك ننجح لا في أعمالنا فحسب، بل في حياتنا بأكملها — أخلاقيًا، اجتماعيًا، مهنيًا، وروحيًا.
وحين نسلك هذا الدرب، تتحقق فينا بركة الوعد الإلهي: «لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ.» (خروج ٢٠: ١٢) فنعيش أيامًا مملوءة سلامًا، تظلّلها نعمة الله، ويكلّلها مجده.