لبنان في امتحان الشرعية الأخير

جو رحال

11/8/2025 6:37:42 AM

في كتابه الجديد "لبنان بين شرعية الدولة والشرعية الدولية - كتابات في جائحة المعاناة والاختبار 2019-2025"، يضع الكاتب أنطونيوس أبو كسم مرآة أمام الدولة اللبنانية، كاشفًا انتقال الشرعية من مؤسسات الداخل إلى المجتمع الدولي. لا يكتفي الكتاب بعرض وقائع السنوات المأزومة، بل يتعمّق في سؤالٍ جوهري أصبح يُختصر في عبارة واحدة: من يملك الشرعية في لبنان؟

منذ العام 2019، دخل لبنان مرحلة انهيار غير مسبوقة. انهارت العملة، انهارت الثقة، ثم انهارت الدولة نفسها. لم تعد المشكلة أزمة مالية فقط، بل أزمة شرعية. شرعية الدولة التي لم تعد قادرة على اتخاذ القرار أو حماية مواطنيها أو فرض القانون. هنا يطرح الكتاب فكرة أساسية: الشرعية ليست وجود مؤسسات، بل قدرة هذه المؤسسات على ممارسة السلطة. حين تتوقف الدولة عن أداء وظيفتها، يبدأ المجتمع الدولي بأداء هذه الوظيفة بدلًا عنها.

يسمّي أبو كسم هذه المرحلة بـ "جائحة المعاناة والاختبار". جائحة لا تتعلق بالصحة فقط، بل بصميم الكيان والدستور والعقد الاجتماعي. فالانهيار المالي والسياسي الذي بدأ في 2019، تلاه انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020، ثم الشغور المتكرر في رأس الدولة، وصولًا إلى دخول المجتمع الدولي في تفاصيل السياسات اللبنانية، بما فيها الإصلاح المالي، وترسيم الحدود، والملف الرئاسي، وحتى ملف النازحين. وبين الحدث والآخر، كانت الدولة تتراجع خطوة، ويقترب الخارج خطوة، حتى أصبح التدخل الدولي أمرًا واقعًا، لا يثير الدهشة ولا حتى الاعتراض.

الكتاب يوضح أن الشرعية لا تُمنح من الخارج، بل تُسحب من الداخل. حين انشغل أهل السلطة بالمحاصصة وتوزيع النفوذ، كانت المؤسسات تتفكك تدريجيًا:

– قضاء مُعطّل أو مُحاصَر.

– إدارة مشلولة.

– مؤسسات أمنية تعمل وفق ميزانيات من المساعدات.

– قرارات سياسية تُصنع في الخارج وتُنفذ في الداخل.

في هذه الفوضى، تحوّل المجتمع الدولي من مراقب إلى شريك، ومن شريك إلى وصيّ فعلي على ملفات أساسية. صندوق النقد الدولي أصبح ممسكًا بالإصلاح المالي، الأمم المتحدة ترعى الحدود والاستقرار الأمني، الاتحاد الأوروبي يدير ملف النازحين، والدول المؤثرة تفاوض حول انتخاب الرئيس. كل ذلك لأن الدولة، كما يشير الكتاب، تخلّت عن وظيفتها الأساسية: القرار.

غير أن أبو كسم لا يكتفي بوصف الانهيار، بل يرسم خريطة طريق للخروج منه، قائمة على ثلاثة عناصر واضحة:

1. احتكار الشرعية الأمنية والسيادية داخل مؤسسات الدولة.

لا دولة بسلاح خارج الشرعية، ولا شرعية بقرار خارج المؤسسات.

2. استقلال القضاء وإعادة الثقة بالمحاسبة.

العدالة ليست خطوة سياسية بل فعل استعادة للشرعية.

3. إعادة بناء الإدارة على أساس الكفاءة لا المحاصصة.

الشرعية تنهض من الداخل حين يشعر المواطن أن الدولة تعمل من أجله، لا ضده.

في كل فصل، تتكرّس الفكرة نفسها: المجتمع الدولي لا يملأ فراغًا سياسيًا فقط، بل فراغًا في الشرعية. فحين يتآكل الداخل، يتوسع الخارج. وحين يتنازل من بيده السلطة عن دوره، يتقدم الآخرون لأدائه. وهنا يدعو الكتاب القارئ والمسؤول معًا للتوقف أمام واقع لا يحتمل التجميل: لبنان لم يخسر شرعيته دفعة واحدة، بل سلّمها قطعة قطعة.

في خاتمة الكتاب، يضع أبو كسم السؤال الذي يجب أن يكون محور النقاش الوطني في المرحلة المقبلة:

هل نريد دولة تستمد شرعيتها من دستورها وشعبها؟

أم سلطة تستمد شرعيتها من الخارج مقابل بقاء هشّ في الداخل؟

لبنان اليوم ليس أمام أزمة مالية أو اجتماعية فقط، بل أمام امتحان الشرعية الأخير. الاستمرار بأنصاف الحلول، أو الاكتفاء بدعم خارجي يُبقي المريض حيًا على أجهزة التنفس، لن يغيّر الواقع. فالشرعية التي تأتي من الخارج موقتة، أمّا تلك التي تأتي من الداخل فهي الوحيدة القادرة على بناء دولة.

ويبقى السؤال الذي يتركه الكتاب مفتوحًا أمام اللبنانيين، مسؤولين ومواطنين:

هل نريد دولة… أم نريد إدارة أزمة؟

هل نريد شرعية… أم نريد بديلاً عنها؟
All rights reserved. Copyrights © 2025 mtv.com.lb
  • أسرارهم أسرارهن
  • أخبار النجوم
  • سياسة
  • ناس
  • إقتصاد
  • فن
  • منوعات
  • رياضة
  • مطبخ
  • تكنولوجيا
  • جمال
  • مجتمع
  • محليات
  • إقليمي ودولي
  • من الصحافة
  • صحة
  • متفرقات
  • ABOUT_MTV
  • PRODUCTION
  • ADVERTISE
  • CAREERS
  • CONTACT