رسالة سلام
الأب الياس كرم
11/29/2025 8:33:58 AM
أهي زيارة أم رسالة؟ أيًّا تكن، فهي حدثٌ استثنائي لوطنٍ ينفرد بخصوصيّته وسط شرقٍ أنهكته الأزمات وتتابعت عليه التحدّيات.
لم يأتِ البابا لاون الرابع عشر إلى لبنان بحثًا عن الاستجمام أو التمتّع بجمال طبيعته، بل اختار أن يحلّ فيه ليقف على فرادته، وليصون هويّته، ويؤكّد دوره التاريخيّ كمَلاذٍ للمسيحيين ونموذجٍ للتلاقي بين الأديان. إنّها زيارة مشبعة بروح السلام من أولها إلى آخرها.
يدرك الكرسيّ الرسولي أنّ لبنان هو المعبر الطبيعيّ إلى الشرق المسيحي، وإلى العراق فسوريا ففلسطين، الأرض التي احتضنت السيّد المسيح ونفحت رسالته الحياة، ومنها انطلق الرسل ليحملوا البشارة إلى العالم. وقبل وصوله إلى لبنان، جعل البابا تركيا محطّته الأولى لما تحمله من رموز تاريخيّة بارزة: ففي هذه الرحلة عانق البطريرك المسكوني بابا روما كما فعل أسلافهما، ولا ننسى أن في أنطاكية سُمّي المؤمنون «مسيحيّين» لأوّل مرة.
يأتي البابا من نيقية، حيث التأم المجمع المسكوني الأول قبل سبعة عشر قرنًا، وهو المجمع الذي صان العقيدة ووضع أسسها. ويأتينا من جوار القسطنطينيّة التي وإن سقطت سياسيًا، ظلّت روحها حاضرة في التاريخ والفكر والضمير المسيحي.
ويحلّ البابا في لبنان على رجاء أن يداوي جراح المسيحيين في هذا الوطن والمنطقة، وأن يجدّد فيهم الثقة بعد ما أصابهم من إحباط. لعلّ زيارته تعيد إلى الوجدان قيم الصفح والتسامح والانفتاح والعطاء والمحبة والحوار…لا الانعزال والتقوقع، وعلى هذا الرجاء نصلّي.
أما زيارته لتركيا، على ما يحيط بها من أحداث، فهي عودة إلى منبت الإيمان. والبابا لاون الرابع عشر هو خامس بابا يزور هذا البلد، وقد اختار أن يبدأ حبريتَه من تركيا ولبنان معًا، تزامنًا مع الذكرى الـ١٧٠٠ لمجمع نيقية الأوّل، المجمع الذي ما زال حاضرًا في حياة الكنيسة، إذ ثبّت وحدة الإيمان ورسم أفق الحوار بين الشرق والغرب. وقد شدّد سلفُه البابا فرنسيس، في مرسوم إعلان اليوبيل «الرجاء لا يخيّب»، على أنّ مجمع نيقية «محطّة مضيئة في تاريخ الكنيسة» ودعوة دائمة إلى «الوحدة المنظورة». وفي نيقية وُضع قانون الإيمان الذي غدا جوهر العقيدة المسيحيّة. واللقاء المسكوني في إزنيق، قرب آثار كنيسة القديس نيوفيتوس، من أبرز لحظات الزيارة.
يأتي البابا إلى بلدٍ ذُكر في الكتاب المقدّس سبعين مرّة؛ إلى لبنان أرض القداسة وتاريخ القدّيسين. يأتي إلى وطن أثقلته الحروب والانقسامات، وإلى شعب دفع أثمان صراعات الآخرين. نرجو أن يحمل إلينا رسالة سلام نحن في أمسّ الحاجة إليها. لعلّ زيارته تبعث الطمأنينة، وتدعو إلى المصالحة والوحدة الوطنيّة، وإلى تمكين المسيحيين من الثبات والشهادة، لا كضيوفٍ في الشرق، بل كشركاء في صنع مستقبله، وإلى مواجهة الفساد والفقر ونزيف الهجرة. إنّها زيارة تعبّر عن اهتمام الفاتيكان بلبنان بما يمثّله من نموذجٍ فريد للعيش المشترك.
ومن الطبيعيّ أن يعانق البابا أرض لبنان المتجذّرة في تاريخ الكنيسة. فمن تركيا التي لا تزال ملامح القسطنطينيّة تضيء جوانبها، إلى لبنان الحضارة والجمال والشموخ؛ لبنان الأديرة والرهبان ونقاء الإيمان؛ سيحمل معه إرث نيقية وعبق الشرق المسيحي. وستضاف خطواته إلى خطوات القديس بولس، ابن طرسوس، على هذه الأرض. إنّ البابا لاون الرابع عشر سيجدّد من لبنان رسالة بطرس الرسول، كي يبقى الشرق يردّد: «وبكنيسةٍ واحدةٍ، جامعةٍ، مقدّسةٍ، رسولية». علّ الرجاء يمتدّ من ميلادٍ إلى فصح لبنان… وعلى هذا الرجاء نصلّي.