حيث الشذوذ هو القاعدة

سليم الحص

01/01/0001

تعرض لبنان في تاريخه الحديث لعدد من الأزمات، بعضها ترافقت واضطرابات كانت الأصابع الخارجية وراءها ماثلة على نحو شبه سافر . ولقد اعتاد اللبناني، ولا عجب، أن يُنحي باللائمة كلما دهمته أزمة على قوى خارجية . وبالنظر إلى ما تتمتع به الولايات المتحدة الأمريكية من سطوة على الساحة الدولية، فقد كان نصيبها من الملامة متميزاً، حتى إن اسمها كان يتردد في كل مرة تنشب أزمة في لبنان . وقد عزز هذا التوجه السياسة التي جعلت الدولة العظمى في جانب عدو لبنان والعرب، أي "إسرائيل"، في معظم الحالات إن لم يكن في كلها، أقله في نظر المواطن اللبناني والمواطن العربي .
هكذا سادت نظرية المؤامرة في أية محاولة لفهم أو تفسير ما واجه ويواجه المشرق العربي، وفي صلبه لبنان، من أحداث وتطورات . وسط هذه الأجواء التي غمرت المنطقة، أضحى الوضع في هذا البلد الصغير يوحي وكأنما الشذوذ عن القاعدة، أي الانحراف عن المألوف والمرغوب، أضحى هو القاعدة .
على المستوى السياسي فاز لبنان بوفرة من الحريات العامة إلا أنه أخفق في ترجمة هذه الحريات ممارسة ديمقراطية صحيحة، فهو يلتزم إجراء انتخابات نيابية دورية، إلا أن هذه الانتخابات لا تعبّر عن إرادة الشعب الحرة كلياً، بفعل المال السياسي الذي يصطنع نتائجها إلى حد بعيد، وبفعل تدخلات غير مشروعة في مسارها من جانب السلطة التي تديرها، كما بفعل هيمنة بعض القوى السياسية التقليدية على إدارتها . هكذا بدا ما كان مفروضاً أن يكون شذوذاً، أي لا صدقية نتائج العمليات الانتخابية، وكأنما هو القاعدة .
وعلى مسرح العصبيات المذهبية والطائفية المستشرية دفعت المواطنة اللبنانية ثمناً غالياً . فالمواطنة ولاء للوطن، وهي التزام موجبات معينة في القول والعمل على أرض الوطن، وهي علاقة مميزة بين المواطن وأخيه في الوطن، وهي كذلك تطلّع إلى غدِ أجيال من أحداث المجتمع وشبابه وبالتالي إلى مستقبل المجتمع . ولقد كان من شأن الفئوية الحادة في لبنان تغليب الولاء للمذهب والطائفة وأحياناً المنطقة على الولاء للوطن، وكذلك تشويه نظرة المواطن إلى واجباته حيال المجتمع والوطن، فحلّت الفردية لا بل الأنانية إلى مدى ملحوظ محل الشعور بالمسؤولية العامة، وتشظت العلاقة بين المواطن وأخيه المواطن فضاعت الهوية الوطنية، أو كادت، على مذبح التمايز الفئوي المتفاقم . ثم إن التطلع إلى المستقبل أضحى مظللاً بسحابة من المدّ الفئوي على حساب أي رؤية استراتيجية سليمة يتطلبها تطور الأمم عموماً، في تصرف وأداء الأفراد والجماعات، وبالطبع السلطة المركزية . هنا أيضاً أضحى الشذوذ أشبه بالقاعدة التي تتحكم بمسار الحياة العامة في بلادنا .
ومن المسلمات أن لبنان عربي الانتماء والهوية، بما يحمله هذا التوصيف من واجبات على الدولة والمجتمع والمواطن . فمن المفترض أن تترجم عروبة البلد وفاء خالصاً لقضايا الأمة وفي مقدمها قضية فلسطين، وتنعكس كذلك التزاماً في القول والعمل هدف التضامن والتلاحم بين الشعوب العربية، ومن ثم الوحدة فيما بينها مهما نأى منال هذا الهدف في تصوّر الكثيرين . أما الواقع فإن قضية فلسطين لم تعد تحظى بإجماع اللبنانيين أو توافقهم العام، بعدما سجلت بعض الأنظمة العربية خروجاً عن هذا السمت، بتوقيع اتفاقات سلام مزعوم مع العدو الصهيوني أو ارتضت لنفسها انفتاحاً مباشراً أو غير مباشر على هذا النحو . وكان في لبنان من يتبنى هذا التحول المشؤوم . هنا أيضاً أضحى الشذوذ أشبه بالقاعدة .
والاقتصاد الوطني مشبوب بثغرات عطّلت بعض إيجابيات ما تومئ إليه مزيته وهو الذي يُعرف بالاقتصاد الحر . من هذه الثغرات وجود ممارسات غير تنافسية أو حتى شبه احتكارية، تبدو فيها قطاعات أو أنشطة معينة في السوق المحلية خاضعة إلى مدى ملحوظ لتحكم أصحاب الرساميل الكبرى . وهناك عائلات معروفة تسيطر فعلياً على قطاعات واسعة من حركة الاستيراد والتصدير والإنتاج في البلد .
أما الدولة فتكاد تكون اسماً على غير مسمى إذ هي تبدو معطّلة الفعالية إلى حد مشهود، بفعل ضعف آليات المساءلة والمحاسبة، كما بفعل هيمنة العوامل المذهبية والطائفية على بنية الدولة وسياساتها وأدائها عموماً، وكذلك بفعل تجارب المواطن الطويلة مع دولته، إذ هو لم يأنس فيها يوماً السند الموثوق الذي يحتاجه في حياته اليومية أو الاستعداد المحسوس لخدمة حاجاته أو تلبيتها . وكثيراً ما ينتاب المواطن شعور بأن الدولة وجدت ليس لخدمته أو التجاوب مع احتياجاته، وإنما لابتزازه عبر ما تجبيه من رسوم وضرائب في مقابل ما يفترض أن تجود عليه من خدمات ورعاية . هنا أيضاً أضحى الشذوذ أشبه بالقاعدة .
وهجرة الشباب المستمرة من لبنان إلى الجوار العربي وسائر أصقاع العالم، يرى فيها اللبناني نعمة وبلاء في آن معاً . إنها نعمة باعتبار أنها تشكل مانعاً لتزايد البطالة في صفوف اليد العاملة . وهي بلاء باعتبار أنها تشكل نزفاً رهيباً للطاقات البشرية المنتجة التي كان ينبغي أن يقطف لبنان من ثمارها .
وهناك نماذج أخرى لا حصر لها تُظهر أن الواقع اللبناني إنما ينمّ عن كون الشذوذ فيه كثيراً ما يكون أشبه بالقاعدة . هذا هو الواقع المقلق الذي يتخبط فيه بلدنا لبنان مع تمتعه بإيجابية ساطعة هي وفرة الحريات فيه على شتى المستويات .
إذا كانت هذه الحقائق تستوقفنا فلأننا نرى فيها داعياً للإقدام على برنامج إصلاحي شامل يرمي فيما يرمي إلى ردم هذه الثغرات التي تنال من سلامة الحياة العامة في لبنان . بعضها قد يكون قابلاً للمعالجة سريعاً . إلا أن بعضها الآخر قد يكون ذا طابع متجذر، والتصدي له لا يكون إلا بإجراءات إصلاحية ذات طابع بنيوي قد يتطلب تنفيذها ردحاً غير يسير من الزمن . هذه الثغرات لا بد أن تندرج في أي برنامج متكامل للإصلاح في لبنان .
ختاماً نسجل أن الواقع العام في لبنان، بفضل الحريات التي يتميّز بها كما بفعل روح المبادرة التي يتحلى بها اللبناني، يبقى أكثر إشراقاً من حال كثير من الأقطار العربية الشقيقة التي مازالت الحريات فيها شحيحة أو مقننة أو مقموعة . فإذا كنا نقسو في تشريح أوضاعنا في لبنان وانتقادها، فذلك لحرصنا على أن يكون بلدنا المثل والمثال في العالم العربي، وكذلك لإيماننا الوطيد بالإمكانات الواعدة التي يزخر بها وطننا الصغير .

All rights reserved. Copyrights © 2025 mtv.com.lb
  • أسرارهم أسرارهن
  • أخبار النجوم
  • سياسة
  • ناس
  • إقتصاد
  • فن
  • منوعات
  • رياضة
  • مطبخ
  • تكنولوجيا
  • جمال
  • مجتمع
  • محليات
  • إقليمي ودولي
  • من الصحافة
  • صحة
  • متفرقات
  • ABOUT_MTV
  • PRODUCTION
  • ADVERTISE
  • CAREERS
  • CONTACT