مرّت العلاقات الروسيّة - الإسرائيليّة بمنعطفات عدة منذ سقوط الإتحاد السوفياتيّ وإلى يومنا، وتفاوتت أهميّة هذه العلاقات بين لحظة وأخرى، مثلما تفاوتت أهميّتها بالنسبة إلى البلدين. لكن، بحكم المؤكّد أنّها اليوم تتجه إلى تدشين لحظة جديدة، وهي لحظة لن تدركها المقاربة "الغوغائية" التي تعتبر أنّ كلّ استعادة لدور حيويّ أو استراتيجيّ لروسيا هو نفخ في بوق الحرب الباردة من جديد، أو المقاربة المقابلة، التي لا تقلّ "غوغائيّة"، بل تزيد، والتي تكفيها زيارة الرئيس فلاديمير بوتين لإسرائيل للمسارعة إلى الحديث عن حلف جهنميّ بين الدولتين ضدّ العرب والمسلمين!
في الواقع، وصلت العلاقات الروسية-الإسرائيلية إلى ذروة التأزّم قبل سنوات معدودات، أي في آب 2008، مع الحرب الروسيّة - الجيورجيّة، حيث تورّط الجانب الإسرائيليّ في تقديم دعم تكنولوجي عسكريّ نوعيّ إلى الحكم الليبراليّ في تبليسي، الذي ظهر في ختام المطاف أنّه حكم أرعن، من خلال "حرب التحرير" التي شنّها في أوسيتيا الجنوبية، فكانت نتيجتها تركيعه، وانفضاض حلفائه الأطلسيين عنه، فيما اعتبر تقدّماً لا يقدّر بثمن بالنسبة إلى روسيا، وقد أسّس على هذا التقدّم الجيو استراتيجيّ لاحقاً الكثير الكثير، إن كان لجهة استعادة روسيا زمام الأمور في بلدان آسيا الوسطى، أو لجهة تمكين الحلف المعاديّ للثورة البرتقالية في أوكرانيا من القيام بهجمة مرتدة، وصولاً إلى رمي "جان دارك الربيع الأوكراني" يوليا تيموشنكو وراء القضبان. ومؤخراً، في واحدة من عروضه الخبيثة، دعا الرئيس فلاديمير بوتين الى معالجة تيموشنكو من مرض السرطان التي تعانيه في احد المستشفيات الروسيّة!
بيد أنّ العلاقات "المميزة" الإسرائيلية - الجيورجية تبخّرت هي أيضاً بفعل نتائج هذه الحرب بالدرجة الأولى، وبفعل حاجة جيورجيا المهزومة إلى سياسات أكثر واقعية تعيل بها نفسها بعد هذه المحنة، ما أدّى إلى تطوير علاقاتها بكل من تركيا وايران.
في المقابل، إنّ العلاقات بين اسرائيل واذربيجان هي التي سرعان ما شهدت تطوّراً نوعيّاً في مختلف المجالات، خصوصاً أنّ هذه العلاقات تهدّد خصماً استراتيجياً مشتركاً للبلدين هو ايران، ثم أنّ اذربيجان، ورغم تقديرها الإجماليّ لانحياز روسيا في أزمة اقليم ناغورنو كارباخ الى الجانب الأرمينيّ، الا أنّ العلاقات الروسية - الآذرية نفسها ظلّت متشعّبة، ومتينة في خاتمة التحليل، بحيث أنّ أي دور تلعبه قواعد ومطارات اذربيجان في الهجوم الاسرائيلي المحتمل على ايران، اذا حصل الصدام العسكريّ، يحتاج إلى ضوء أخضر روسيّ. وهذا الأمر لا يمكن أن تتعامل معه روسيا فقط كضمانة لعدم تعريض ايران لهجوم من جهة اذربيجان، بل كورقة أساسية تستخدم بشكل مختلف في كل لحظة تفاوضية على مدار الأزمة المتصلة بالملف النووي الإيرانيّ.
المهمّ إذاً أنّ السياسة الإسرائيلية انتقلت من الشراكة "الهوجاء" مع جيورجيا في مواجهة روسيا، إلى الشراكة "الخبيثة" مع اذربيجان في مواجهة ايران، لكن أيضاً بالتقاطع، أو العروج، على روسيا. وهذا التغير في المعطى الإستراتيجيّ العام هو الذي أعاد فتح الطريق في العلاقات الروسية - الإسرائيلية وصولاً إلى اعتبارها علاقات "وجودية" على خلفيات المظلومية المشتركة من النازية وما الى ذلك، علماً أنّ بنيامين نتنياهو كان صنع أسطورة من نوع آخر تجاه جيورجيا قبل سنوات متحدّثاً عن حلف الـ"2600 سنة" بين البلدين!!
لكنّ طبعاً، التقلبات التي يعيشها العالم العربيّ، كما مشاريع انسحاب حلف شمال الأطلسيّ من أفغانستان، واستمرار مشاريع تمدّده الى جمهوريات سوفياتية سابقة، هي كلّها تدخل في اطار هندسة العلاقات الروسية - الإسرائيلية ومدّها بالزخم في هذه المرحلة.
وروسيا تتصرّف مع الأنظمة التي كانت محسوبة عليها أيّام الحرب الباردة على أنّ سقوطها سيكون محسوباً عليها أيضاً رغم مضي عقدين ونيف على سقوط الإتحاد السوفياتي نفسه. لكن العين الروسية، كما العين الأميركية، تنظر الى كل هذا، من الزاوية "الأفغانية"، أي مركز الحرب الشاملة التي تقودها الولايات المتحدة منذ 11 سنة. روسيا تعتبر ان الانسحاب الأطلسيّ من أفغانستان هو هزيمة للأطلسي والولايات المتحدة، ولا يهمّها بالأساس التشاطر لجعل هذه الهزيمة نصراً لها كما يتوهم البعض، لكنها تخاف من ارتدادات هذه الهزيمة عليها. أي تتخوف من ان تؤدي هذه الهزيمة لأميركا والأطلسي في أفغانستان الى زعزعة الأوضاع في آسيا الوسطى بشكل يتقاطع فيه "المهزوم" الأميركيّ مع "المنتصر" الإسلامويّ، بالاستيحاء من التقاطعات الحاصلة في الشرق الأوسط على خلفية الربيع العربيّ.
ليس هناك إذاً في كلّ هذا أي اعتبار لمنطق "تحالف الأقليّات" في السياسة الروسية بشكل اجماليّ، باستثناء بعض النزوات في وزارة الخارجية، وخصوصاً عند سيرغي لافروف بسبب انتمائه الاثني الأرمنيّ من حيث الأب، وتأثّره بشكل أو بآخر بنزعة التخوّف من تعاظم الدور التركيّ في الشرق الأوسط. الاعتبار الأساسيّ هو احتواء الارتدادات السلبية للخيبة الأميركية في "الحرب على الإرهاب"، والنظرة المتشائمة الى الربيع العربي انطلاقاً من ذلك. في المقابل، ما زال فلاديمير بوتين حريصاً على عدم الوقوع في شبهة "الاسلاموفوبيا" أو رُهاب الإسلام، أي بالأحرى معاداة المسلمين، كونه كان سباقاً الى اعتبار الإسلام جزءاً عضوياً من مكوّنات الهوية القومية لروسيا الإتحادية، وهو موقف لم يصل اليه أحد قبله في التاريخ الروسيّ.
من هنا المفارقة. فإسرائيل اليوم أكثر اقتراباً من خطاب "الاسلاموفوبيا" من أي وقت آخر (الخشية من طوق اسلامي متشدّد حولها)، لكنها مع ذلك تبني على حتمية سقوط الأنظمة، وتحديداً النظام السوريّ. في المقابل، تبذل روسيا جهداً حقيقياً كي لا تقع في شبهة "الاسلاموفوبيا"، لكنها تتورّط في الموضوع السوريّ بما يجعلها بفاتورة أخلاقية لا تزال سياستها الخارجية قاصرة على فهم أنّها حقيقة، في غنى عنها، خصوصاً في مرحلة يمكن لروسيا أن تحرز نقاطاً كثيرة من التراجع الأميركي والغربي في المنطقة من دون الظهور بمظهر المدافع عن سفّاح أرعن.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك