متى تزور سوريا؟
هذا السؤال طرح على البطريرك الماروني الجديد بشارة الراعي حتى قبل ان يجلس رسميا على كرسي البطريركية، وهو السؤال نفسه الذي كان يتكرر طرحه على البطريرك الكاردينال صفير، وقد انتهت ولايته ولم يقم بهذه الزيارة التي كان لها بعد سياسي وليس راعويا بعدما ربط الزيارة بانسحاب القوات السورية من كل لبنان عملا بالنداء الاول الذي صدر عن بكركي وتطبيقا لاتفاق الطائف.
اما زيارة البطريرك الجديد الراعي فلا بعد سياسياً لها حتى لو اراد الغير ذلك، وقد حرص على التأكيد انها راعوية فقط، لان من واجب الراعي ان يتفقد رعيته حيث هي في لبنان وخارج لبنان، وان يقف على احوالها وحاجاتها. وما هو سياسي يبقى للسياسيين وبين دولة ودولة، وعلى اساس "ما لقيصر لقيصر وما لله لله"...
هذا من جهة، ومن جهة اخرى فان الزيارات وحدها لا تعزز العلاقات او تحييها سواء بين الناس او بين الدول، اذا لم تكن النيات صافية لتحقيق الانجازات المطلوبة. لقد قام رؤساء الجمهورية ورؤساء الحكومات والوزراء في لبنان بعدد لا يحصى من الزيارات لسوريا، ولم يتم التوصل الى جعل العلاقات مميزة وممتازة لان لسوريا مواقف من المطالب تختلف عن مواقف لبنان الرسمي والشعبي. فبرغم عدد القمم التي عقدت في عهود متعاقبة بين لبنان وسوريا، فان العلاقات ظلت تواجه حالة مد وجزر، حتى ان اقامة تمثيل ديبلوماسي بين البلدين لم تتم الا بعد مرور 67 عاما على استقلال كل منهما، لان الحكم في سوريا ظل يعتبر لبنان تابعا له او جزءا من سوريا واستقلاله شكليا وبلا مضمون، واعتبار الشعبين واحدا وان في دولتين، وقد اصبح في ظل الوصاية السورية التي دامت 30 عاما شبه دولة واحدة لشعبين.
لقد قام الرئيس ميشال سليمان باكثر من زيارة الى سوريا، وقام الرئيس فؤاد السنيورة وبعده الرئيس سعد الحريري باكثر من زيارة ايضا برغم ما اعطيت لها من تفسيرات الخضوع والاستسلام ونسيان الحقيقة والعدالة ولم يتم التوصل بنتائجها الى تحقيق مطلب من المطالب التي تهم لبنان مثل ترسيم الحدود بين البلدين كي لا تبقى موضوع نزاع خصوصا في مزارع شبعا توصلا الى تحريرها من الاحتلال الاسرائيلي، وضبط هذه الحدود من اجل مكافحة التهريب والاعمال المخالفة للقانون، وبت ملف المفقودين اللبنانيين والموقوفين في السجون السورية، وازالة السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وضبطه داخلها، ومراجعة الاتفاقات الثنائية القائمة بين البلدين بصورة موضوعية ووفق قناعات مشتركة بما ينسجم مع التطورات الحاصلة في العلاقات بين البلدين ويستجيب لمصلحة الشعبين وخصوصا "معاهدة الاخوة والتعاون والتنسيق" التي انبثق منها اتفاق الامن والدفاع والمجلس الاعلى اللبناني – السوري وتحديد مصيره بعد قيام تمثيل ديبلوماسي بين البلدين. حتى ان العلاقات التي اتفق على ان تكون من دولة الى دولة، ظلت مزيجا لعلاقات مع احزاب وشخصيات تثير الشكوك والريبة. فهل يمكن ان تؤدي زيارة البطريرك الراعي الراعوية حتى وإن استغلت سياسيا الى فتح الباب باستجابة مطالب لبنان المزمنة التي لم تستجب لا بزيارات الرئيس سليمان المتعددة ولا بزيارات الرئيس الحريري برغم اهمية معناها ومغزاها، ولا حتى بزيارات العماد ميشال عون الحليف الجديد لسوريا كي يقال انه يوظف صداقته لسوريا لمصلحة لبنان.
فهل يعقل ان تستجاب هذه المطالب وحتى بعضها بزيارة البطريرك الماروني الجديد حتى وإن لم تكن سياسية بل راعوية؟
في الواقع، لقد اقتصرت الزيارات اللبنانية لسوريا حتى الآن على تبادل الكلام المعسول وعلى المجاملات والاستقبالات الحارة، اما الافعال والانجازات فظلت في مكان آخر...
واذا كان البطريرك صفير تجنّب القيام بزيارة راعوية للموارنة في سوريا لانها كانت ستتحول زيارة سياسية تنتهي من دون نتيجة خصوصا في ما يتعلق بالوجود العسكري السوري في لبنان كي يستعيد استقلاله وسيادته وسلطته على كل اراضيه، فان زيارة خلفه البطريرك الجديد الراعي لن تكون سوى زيارة راعوية مهما حاول البعض اعطاءها بعدا آخر لانها ليست مرتبطة بمطلب سياسي كما زيارة البطريرك صفير.
اما اعتقاد البعض بان مواقف البطريرك الراعي قد تكون مختلفة عن مواقفه وهو اسقف، وان من يرى روما من فوق غير من يراها من تحت، فان هذه المواقف ليست لاي بطريرك او اسقف انما هي لبكركي وللكنيسة جمعاء ولا اعادة نظر فيها الا لبكركي وللكنيسة، خصوصا ان البطريرك الجديد حرص على تكرار القول انه يفصل بين الوجه السياسي والوجه الكنسي، وان الشؤون السياسية هي شأن السياسيين، وان كان هذا لا يعني ان الكنيسة تقف متفرجة عندما يقصر السياسيون في حماية الثوابت الوطنية والدفاع عنها، وهو ما فعلته بكركي عندما اصدرت النداء تلو النداء دفاعا عن استقلال لبنان وسيادته وحرية قراره الوطني. فالكنيسة المارونية كان لها دورها الكبير في تكوين لبنان ومن واجبها ان تبقى سياسيا مستقلة لكنها لن تكون وسيلة لبلوغ مآرب سياسية، ودورها هو دور الحكم والتوعية لا دور التحزب والانحراف الا لمصلحة لبنان اولا. ولا بد هنا من التذكير بقول البطريرك الحويك للمندوب الفرنسي جورج بيكو عندما جاء ليشرح له اهمية السهول الواسعة التي تجمع لبنان وسوريا: "ان حريتنا اجمل من سهول العالم كلها".
ولا بد من التذكير ايضا بتأكيد المجمع الماروني عام 2003 "على ارتباط تاريخ الكنيسة بارض لبنان ومحيطه العربي والعيش المشترك والحرية كشرطين متلازمين لوجود لبنان وبقائه ولوطن ديموقراطي يتساوى فيه الجميع".
وفي بيان صدر عن مجلس المطارنة الموارنة عام 2007 اكد فيه: "ان انشاء المحكمة ذات الطابع الدولي هو في صلب ما تعتقده الكنيسة وتؤمن به من احقاق للحق والعدل، وان الكنيسة لن تقف موقف المتفرج على التطورات الخطيرة في لبنان والمنطقة بالنظر الى المخاطر الكبيرة التي تهدد لبنان ووحدته، وهي تؤكد تمسك لبنان بالشرعية الدولية وبالقرارات الصادرة عن مؤسساتها".
وفي عام 2009 اعلنت الكنائس مجتمعة "شرعية العمل السياسي" في مؤتمر حضره حشد كبير من كل الطوائف والاتجاهات وكان من المتكلمين فيه المطران الراعي شارحا اهمية هذه الشرعية، وابرز ما تضمنته: "العلاقة بين الكنيسة والدولة، ولبنان الوطن والخصوصية والكيان وميثاق العيش المشترك والصيغة وانهاض لبنان والدولة المدنية الديموقراطية، ومعايير الانتخاب والمساءلة والمحاسبة، والمصالحة والغفران نقطة انطلاق نحو مستقبل جديد افضل، والتمسك بمبادئ الحوار وحل الخلافات في اطار المؤسسات الدستورية، ورفض الاحتكام الى اي شكل من اشكال العنف والصدامات المسلحة تحت اي ذريعة او سبب، معتمدين على الجيش وقوى الامن الداخلي وحدهما للمحافظة على امن المواطنين والاستقرار والامتناع عن استعمال عبارات التحقير والاذلال في المخاطبة وعن اثارة الاحقاد والنعرات الطائفية او الحزبية او الفئوية او الشخصية، واعتماد آليات للحؤول دون تعطيل عمل المؤسسات الدستورية، والابتعاد عن سياسة المحاور الاقليمية والدولية وعدم التمحور في احلاف خارجية تخوض صراع مصالح ونفوذ على ارض لبنان وعلى حسابه، والسعي، بالتعاون مع منظمة الامم المتحدة وجامعة الدول العربية، الى تحييد لبنان مع تعزيز قدراته الدفاعية بحيث يكون بلدا نموذجيا للحوار الديني والثقافي العالمي".
إن "شرعة العمل السياسي" هذه تصلح لان تكون اساسا لمصلحة وطنية شاملة وللاجابة عن سؤال مزمن: "اي لبنان نريد واي دولة نريد؟"
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك