
حكمت أبو زيد
كتب حكمت أبو زيد (جزء ثانٍ من كتابه "الثورة المؤسّساتيّة في لبنان"):
إنّ مسيرتي المهنية ساهمت في ترسيخ التزامي كمواطن، وأعطتني الفرصة للتعرّف إلى نخبة من الأسماء المتميّزة بمهاراتها على المستويين المهني والفكريّ. ولم يكن التغيير الإداري الذي نجحت مؤسستنا العائلية في تقديمه إلى الشعب اللبناني وإدخاله في صلب حياته إلّا دليلًا على أنّ لبنان يبحث بالفعل عن نظام حوكمة جديد.
فمن خلال لجوئنا إلى الحلول التكنولوجية الحديثة واعتمادنا على الأساليب والممارسات الجريئة في عالم التواصل، إلى جانب فعالية الخدَمات المالية، استطعنا أن نعيد صلة الوصل بين لبنانيّي الإغتراب وعائلاتهم المقيمة على أرض الوطن، بتقصير المسافة التي تفصل بينهم من جهة وتسهيل عملية انتقال موجوداتهم بكلّ أمان من جهة أخرى. وبوقوف مؤسستنا في خدمة المواطن، من أيّ طبقة اجتماعية كان، استطاعت أن تجسّد المثال الحيّ والناجح للشراكة بين القطاعين العام والخاصّ، وأن تكون نموذجًا للامركزية بشبكة تضمّ أكثر من ألف نقطة بيع موزّعة على كافّة الأراضي اللبنانية (بمعدّل نقطة بيع واحدة لكلّ 10 كلم²). وعليه، فقد ساهم هذا النموذج في ترسيخ وجود الدولة لدى كلّ مواطن. باختصار، هذا هو ما يُسمّى بالأقلمة (أو بالإنكليزية
Localism)، أي الإدارة التقاربية التي نجحنا في تطبيقها بفضل نظام تواصل فعّال بين المركز الرئيسي والمكاتب المعتمدة.
إلى ذلك، فإنّ خبرتي المهنية عزّزت قناعتي بأنّ العوائق المذهبية ليست موجودة بين اللبنانيين. فشغلهم الشاغل وهمّهم الأساسيّ أن يحملوا مشروع حلمهم المهنيّ الشخصيّ في إطار المساهمة في الحلم الجماعيّ اللبناني. وقد تأكّد لي، من حيث المبدأ، أنّ الإمكانيات الإنسانية في بلادي تشكّل قيمة أكيدة، إضافية، تضمن تطوّرًا ديناميكيًّا على قدر كبير من الأهميّة، وهو ما يمكن توصيفه بالقوّة الكامنة التي جرى التفريط بها طوال السنوات الثلاثين الماضية. وإن كنت قد توصّلت إلى هذا الاستنتاج فلأنّني كنت شاهدًا داخل المؤسسة على عمل فريقنا الذي يضمّ أكثر من 300 موظّف، إلى جانب شركائنا ومقدّمي الخدمات التابعين لنا، حيث أنّ كلّ واحد منهم، وفي أيّ منطقة كان من لبنان، كان يبذل قصارى جهده ويؤدّي عمله بكلّ فعالية.
أمّا بالنسبة إلى انخراطي في السياسة، فقد بدأت المسيرة في سنّ مبكرة. وقد ساهمَت في نموّ هذا الالتزام مجموعةٌ من الظروف والأحداث المحدّدة. أوّلًا، كنت ناشطًا مندفعًا ضدّ احتلالين للبنان: السوري والإسرائيلي. وأذكر أنّني أسّست مع مجموعة من طلّاب مدارس بيروتية عدة حركة يسارية سمّيناها «الحركة اللبنانية المستقلّة». وقد تسنّت لنا الفرصة، خلال حدث ثقافيّ تمّ تنظيمه في تلك الحقبة في حديقة الصنايع ببيروت، لجمع أكثر من 30 مليون ليرة لبنانية قدّمناها كمساهمة منّا في إعادة إعمار مدرسة رسمية في بلدة قانا المقدّسة التي دمّرتها الغارات الإسرائيلية خلال حرب 1996. في العام 1999، وعلى غرار عدد كبير من الشبّان، قاومتُ الاحتلال والتدخّل السوريّ، ما كلّفني اعتقالًا في حبس قصر نورا في سنّ الفيل لمدّة يومين.
في أيّار 2000، وعلى إثر انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان، وبفضل جهود المقاومة اللبنانية وانتشارها، استطعتُ ولأوّل مرّة أن أتعرّف إلى بلدتي «مليخ» الواقعة على جبل الريحان في قضاء جزّين. في الواقع، لم تكن قد وطأت قدمي أرض قريتي مرّة واحدة بسبب الاحتلال الإسرائيلي، وكنت بالتالي لا أعرف المنطقة التي تتحدّر منها عائلتي إلّا من خلال الحكايات التي كان يقصّها علينا جدّي.
بعد بضع سنوات، في شباط 2005، عايشت اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري، شهادةً على أحد أكبر حشود الوحدة الوطنية، هذا الاغتيال الذي شكّل عاملًا محفّزًا في تاريخ لبنان والمنطقة، ودفع بالجيش السوري إلى الانسحاب من الأراضي اللبنانية بموجب القرار 1559 . في تلك الحقبة، كان لبنانٌ جديدٌ على وشك أن يولد.
على الرغم من الإيجابيات، تبيّن أنّه، بعد انسحاب الجيش السوري، سقطت الآلية الإداريّة التي أحسن إدارتها نظام دمشق في لبنان، نظرًا إلى أنّه وحده كان يعرف طرق وأساليب تطبيقها. وجاءت التداعيات على الشكل التالي: عانت البلاد مطوّلًا من أزمات دستوريّة أدّت إلى تفاقم الفتن المذهبيّة وتوسيع الصدع الذي لحق بالعقد الاجتماعيّ (أي الوفاق الوطنيّ المسمّى بالصيغة). وما كان من الاضطرابات السياسية التي كانت - ولا تزال - تضرب المنطقة إلّا أن ساهمت في تردّي فعالية النظام الإداريّ اللبناني واستفحال قلّة الكفاءة.