ثورات الشباب التي ألهبت أوضاع العالم العربي، بعد طول سبات، بدأت تتحوّل إلى مشاهد أكثر دراماتيكية، عبر العناد غير الموصوف، وغير المبرّر، الذي يُبديه بعض القادة العرب، خاصة في ليبيا واليمن، في قمع حركات التغيير الشعبية التي تُطالب بالحرية والديمقراطية والعيش الكريم·
ورغم انعدام أفق الحركة أمام قادة الأنظمة المتهاوية، فإن التصدي الأرعن لإرادة الشعوب المغلوبة على أمرها بالحديد والنار، واستخدام الجيوش وترسانات الأسلحة لقصف المدن، وقتل المواطنين الآمنين، عقاباً على تجرؤهم على الجهر بكلمة <لا> للحاكم، إن هذا التصدي الأرعن فتح أبواب التدخلات الخارجية على مصراعيها، ووضع أمن البلاد والعباد في خطر داهم·
ما يجري في ليبيا لم يعد مجرّد حدث داخلي يهمّ الليبيين فقط، ولا هو بالحدث العربي الذي يعني المنظومة العربية وحدها، بقدر ما تحوّل إلى أزمة دولية جديدة، بفعل التدخل العسكري المباشر للتحالف الغربي تنفيذاً لقرار مجلس الأمن الدولي الأخير الذي حمل الرقم 1973·
والتطورات العسكرية الدراماتيكية المتلاحقة على الأرض الليبية، أخرجت حركة التغيير الديمقراطي عن مسارها السياسي المسالم، بعدما أصرّ القذافي وأولاده على التعامل مع جموع شعبهم كجرذان مذعورة، وكجماعات تائهة في عالم الهلوسة! فكان لا بد للمجتمع الدولي من ان يهب لحماية المدنيين الليبيين من غارات الحقد الأسود، ومن قصف الدبابات والبوارج الأعمى!
ويبدو ان تجارب وعبر التاريخ القديم والحديث، ما زالت بعيدة عن استيعاب بعض الحكام العرب، خاصة في ليبيا واليمن، والذين عاشوا بالأمس القريب مأساة الرئيس العراقي صدام حسين، والتي اودت الى وضع اليد الأجنبية على العراق، والتلاعب بنسيجه الاجتماعي والوطني، وصولاً الى مصادرة ثروات بلد الرافدين وتهديد وحدة الارض والشعب، بعد القضاء على مقومات الدولة الواحدة والمتماسكة·
التأييد العربي لقرار مجلس الأمن فرض حظر جوي على النظام الليبي وحماية المدنيين الليبيين، لا يقلل من أهمية التنبه والحذر من مخاطر استغلال تطبيق القرار 1973 بشكل منحرف، يتجاوز الاهداف الاساسية والسامية بحماية المدنيين من جنون حاكم على حافة السقوط، الى تحقيق غايات ومآرب استعمارية دفينة، تؤدي الى وضع هذا البلد العربي تحت وصاية دولية تنهب الخيرات والثروات النفطية والمالية، وتوقع الشعب الليبي الطيّب في حبال الفتن والفرقة، بما يهدد وحدة الشعب والارض والدولة في ليبيا العزيزة·
مشكلة الشعوب العربية مع بعض الحكام المستبدين، ان وجود هؤلاء في السلطة على امتداد عقود من الزمن، يجعلهم يتخيلون ان الأوطان أصبحت مزارع لهم، وان الشعوب هي اشبه بقطعان الماشية يديرها ازلام الحاكم كيف يشاء، وان لا حياة للناس وللبلد من بعدهم، وبالتالي فهم يتمسكون بالبقاء في الحكم من جيل الى جيل، حماية للوطن ورأفة بشعبه!!
ومع التسليم بأن عناد القذافي، وصلف اولاده في قمع ثورة الشعب الليبي الأبي، كانا وراء هذا الدخول الدولي على المسرح الليبي، الا ان الامانة التاريخية تفرض علينا الاعتراف بأهمية صياغة موقف عربي يستدرك مخاطر التوغل الدولي في الازمة الليبية، ويعيد تصويب التدخل العسكري وحصره بحماية المدنيين فقط·
ان خطورة السكوت العربي عن مسألة انتقال حركة التغيير من المسار الديمقراطي الشعبي المحض، الى أساطيل التحالف الغربي، تكمن في تشجيع اطراف اخرى، خاصة الدولة العبرية، على استغلال فترة اللجوء الى القوة العسكرية من قبل المجتمع الدولي ضد النظام الليبي، لتستنفر قوتها العسكرية هي الأخرى، لحسم الصراع في المنطقة مع مواقع المقاومة، لا سيما مع حماس في غزة ومع حزب الله في لبنان·
وهنا تكمن اهمية الاستنفار الديبلوماسي العربي باتجاه واشنطن وعواصم القرار الدولي الأخرى، لردع الدولة العبرية عن القيام بأية مغامرة عسكرية جديدة في المنطقة، من شأنها أن تؤدي ليس إلى إجهاض حركات التغيير الديمقراطي وحسب، بل وإلى إعادة نشر الفوضى المسلحة في المنطقة، واستدراج التنظيمات المتطرفة إلى خطوط المواجهة·
ولأن لبنان جزء حيوي من المنطقة العربية الإستراتيجية فإن الوطن الصغير لا يستطيع أن يبقى بعيداً عن تداعيات ما يجري في المنطقة من إنتفاضات وثورات ستغيّر وجه التاريخ، وتحصين الوضع اللبناني من الإرتدادات السلبية للزلزال السياسي الذي يجتاح المنطقة، يتطلب أولاً، وقبل كل شيء، من الجميع في 14و8 آذار، وما بينهما، أن يتخلى عن فكرة التفرّد بالحكم، أو التسلّط على القرار الوطني في البلد، أوحتى مجرّد التفكير بالشعار السيء الذكر <أنا·· أولا أحد>!·
لأن طبيعة الأخطار المحدقة بالبلد تتطلب عودة سريعة، حقيقية ومخلصة، إلى الحوار المسؤول بين القيادات الرئيسية، على الأقل بهدف تأجيل الملفات الخلافية، إذا لم يكن بالإمكان التوافق على حلول معقولة لها، والتصرّف وكأن البلد مهدد بحرب إسرائيلية جديدة، تستدعي الوقوف صفاً واحداً، وجبهة واحدة في صد العدوان، ودرء أي خطر يتهدد البلاد والعباد·
كفانا سجالات··، كفانا خلافات··· كفانا صراعات! التسونامي السياسي المتنقل من بلد إلى آخر، والعودة إلى منطق القوة لمعاندة حركة التاريخ، وتفاعل شهية التدخل الدولي في دول الثروات الطبيعية والمالية··، كلها مؤشرات لحجم الأخطار التي تهدد أمن واستقرار لبنان ودول المنطقة!·
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك