ثمة شيء غامض في لبنان، فإما أن الدولة فقدت القدرة كلياً على الإمساك بالأمن واستقالت من دورها، أو أن العصابات باتت أقدر من الدولة وتمارس معها لعبة القط والفأر، إذ ليس بمقدور الهر القبض على غريمه وسحقه، كما أنه ليس بإستطاعة الفأر كسر الهر وهزيمته، غير أن الثابت الوحيد حتى الآن هو أن السلطة القائمة ليست على قدر تحمّل المسؤولية، ولم تعد ذات أهلية في تولي شؤون البلاد والعباد، ما دامت عاجزة عن الوفاء بإلتزاماتها تجاه المواطنين، أقلّه في إنهاء مسلسل الخطف الذي حوّل حياة اللبنانيين الى جحيم، بإعتبار أن نيرانه لم تعد تقتصر على من وضعتهم العصابات على لوائحها، بل إن لهيبها سيلفح أي مواطن ميسور الحال، بات يعتبر نفسه هدفاً محتملاً لهذه العصابات المنظمة والمحمية أمنياً وربما على أعلى المستويات.لم يعد خطر هذه الآفة يقتصر على أمن الناس فحسب، إنما بات يهدد ما تبقى من الدولة ومؤسساتها، لا بل مقومات وجودها، وبات يضع مصيرها على المحك، سيما وأن الوعود التي قطعها المسؤولون لإنهاء هذه الظاهرة ذهبت أدراج الرياح، كما أن المهل الزمنية التي أعطاها وزير الداخلية مروان شربل لوقف هذا المسلسل ضرب بها الخاطفون عرض الحائط، وأثبتوا قدرتهم على تحدي الوزير بعد بضع ساعات على وعوده، وهو ما جعل المواطنين يطرحون السؤال الجوهري، ما دام الوزير عاجزاً عن الوفاء بتعهده فلماذا يقطع وعوداً للناس؟، ولماذا يمنيهم بأمن لم يأت ولن يأتي في المستقبل المنظور، ما دام الوزير وكل الفريق الحكومي لا يضعون الأصبع على الجرح، ولم يذهبوا الى معالجة الأسباب الحقيقية التي تكمن في إنتشار السلاح غير الشرعي، وتفريخ أجنحة مسلّحة محمية في هذه المنطقة وتلك، وإستضعاف الدولة لصالح الدويلة صاحبة النفوذ المطلق في السياسة والأمن والهيمنة؟.اللافت أن الموعد الذي ضربه الوزير شربل لجعل ظاهرة الخطف من الماضي لايزال مفتوحاً، ومهلة الأسبوع التي أعطيت للخاطفين للتوقف عن نشاطهم الجرمي والتي تنتهي اليوم الثلاثاء، قبل أن يقبض عليهم ستتحول الى أسابيع، وقد تصبح أشبه بثلاثاء الجنرال ميشال عون في استتباب الأمن في سوريا، والدليل أن الخطف مستمرّ وآخر حلقاته كانت خطف المواطن باسل الميس ليل أول من أمس، قبل أن يتمكن من الفرار من خاطفيه بأعجوبة، في حين أطلق سراح المخطوف علي أحمد منصور مقابل فدية 600 ألف دولار لم تكن على قدر طموح الخاطفين رغم ضخامتها، وهذا ما يجعل حبل الخطف مستمراً على جرار الفدية، طالما أن هذه الظاهرة تجارة رابحة، أكثر بكثير من سرقة السيارات وترويج المخدرات وتهريب الأسلحة، وربما تكون أسرع الى الثراء من عمليات السطو على المصارف الرائجة في وضح النهار، لأن الخطف بات أقلّ خطراً من كل هذه المجازفات، ما دام الخاطفون يلجأون الى مربعاتهم الأمنية ودويلاتهم المحصنة، ويفاوضون إما مباشرة وإما عبر وسطاء.من الواضح أن لبنان سيبقى أرضاً خصبة وساحة مفتوحة لشتّى أنواع الفلتان الأمني، لا سيما مسلسل الخطف المرعب لسببين أساسيين، الأول أنه لا قرار حتى الآن لدى قوى الأمر الواقع بأن تقوم دولة في لبنان، أو أن تقوم بقايا الدولة الحالية بواجباتها في فرض سلطتها على أراضيها، وأن تكون للأجهزة العسكرية والأمنية الشرعية الكلمة المطلقة، والدليل إستباحة دم قوة عسكرية قبل يومين في الضاحية الجنوبية أثناء قيامها بواجباتها، والتي كان أبشع نتائجها إستشهاد المقدم في الجيش عباس جمعة الذي قضى متأثراً بجروحه أمس، والثاني: أن عصابات الخطف لا تزال تحظى بالغطاء الأمني الذي توفره لها هذه القوى والتي على ما يبدو لا نية لها بسحب الغطاء عنها لأنها إما مستفيدة منها عبر تقاسم الغنائم معها، وإما لإستعمالها كورقة مقايضة في صفقات منتظرة تكون فيها هذه العصابات وسلاحها ورقة المقايضة الوحيدة بدل السلاح الآخر الموجود لأسباب وأجندات إقليمية وليس قابلاً للبحث لا الآن ولا في المستقبل المنظور.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك