لم يعد بإمكان أي حدث أو ظرف مهما كان، وكيفما وُضّب أو سُوّق، أن ينجح في إخراج أنصار النظام السوري و"حزب الله" بين المسيحيين من المسار التراجعي لحجم شعبيتهم، فضلاً عن المسار الاندثاري للخصوصية التي كانت تميزهم عن حليفهم الأمني وتمسّكهم بجمهورهم إلى حين.
فأياً كانت الهواجس التي يتشارك بها مسيحيو لبنان مع مسيحيي المنطقة، وتتعلّق بالتحديات الإضافية التي تستتبع الثورات الربيعية العربية، وانتشاء التيارات الإسلامية في المرحلة التالية، على الأقل، إلا أنّ "حلف الأقليات" لم ينجح في تمرير نفسه ولو بالحد الأدنى في الاجتماع المسيحي اللبناني، أولاً لأن الفكرة منه تطيح بالاختلاف في شكل الوجود السياسي الذي طالما عوّل عليه الموارنة بالتحديد بينهم وبين الجماعات المسيحية الأخرى في المنطقة، وثانياً لأنه مهما ذهب التذاكي "الحلف أقلوي"، "اللاسني" و"الحريروفوبي"، بعيداً في تسويد صفحة "تيار المستقبل" وتبييض صفحة "حزب الله"، لا يمكن المكابرة بين المسيحيين على مسائل ثلاث رئيسية وهي أن "حزب الله" حزب أصولي وأنه حزب مدجج بمختلف أنواع الأسلحة وبأن تزعمه لطائفته يجعل المعطى الديموغرافي التخومي مع المناطق المسيحية يتداخل مع المعطيين التعبوي والأمني ويرسم خطوطاً من التوتر، وهذه مسألة "ميدانية" يومية لا يهمّ فيها إذا كان المواطن المسيحي عونياً في الأساس، أو قواتياً، أو غير ذلك.
وفي المسألة السورية تحديداً، كان "اضطرار" مسيحيي "حزب الله"، وفي طليعتهم العماد ميشال عون، لإبداء مواقف مساندة للنظام الفئوي، عاملاً سلبياً نوعياً على الحجم والدور والخصوصية. قد لا يكون المسيحيون هم أكثر الجماعات اللبنانية حماسة لسقوط هذا النظام اليوم، لكن من المؤكد أنهم كانوا أكثر الجماعات كفاحاً ضد هذا النظام، حرباً وسلماً، وليس سهلاً تسويق فكرة حملهم على نصرته وهو يحتضر في بحر من دماء شعبه.
وليس هناك من دليل أكبر على الاستنزاف الحاصل في الجماعة العونية والضمور اللاحق بخصوصيتها أكثر من كون أي موقف اعتراضي من جانب العماد عون على سلوك "حزب الله" و"حركة أمل" حياله، وأي موقف تخفيفي من الارتباط مع النظام السوري، يعود فينعش شيئاً من شعبيته، إلا أن هذا يبقى محدوداً، وأكثر فأكثر يظهر عون سواء لدى المناصر المواظب أو المناصر الذي فترت حماسته أو الذي انفضّ عنه، كشخص لم يعد قادراً على الإفلات من الدائرة التي اختارها، دائرة بشار الأسد وحسن نصر الله، وهذا هو الشعور بالاختلاف البيّن بين هذا الشكل من التحالف العضوي للجنرال مع منظومة الممانعة مع أشكال سابقة من التحالفات، كانت تتبدل درجة، من صدام حسين إلى المحافظين الجدد، إلا أنها كانت تظل تمنحه القدرة على الحركة وعلى تبديل الوجهة أنّى دعت الحاجة. طبعاً، وبمعزل عن استحالة تسويق "حزب الله" والنظام السوري في الوسط المسيحي، وعدم القدرة على أخذ حلف الأقليات على محمل الجد، فقد نجح عون في الاستثمار في "اللاسنية"، وليس مردّ ذلك إلى أن هناك قعراً تاريخياً أو ثقافياً للموضوع كما يذهب البعض، بل سبب ذلك أن هذه "اللاسنية" تحاكي مشكلة مزمنة لدى المسيحيين مع اتفاق الطائف، وهذه إشكالية لا يمكن أن يبقى الاستقلاليون المناصفاتيون اللبنانيون من مسيحيين ومسلمين يكابرون عليها، ولا بدّ أن يباشروا في طرحها بهدوء وروية في ما بينهم، هذا إذا أرادوا تجفيف آخر مصادر تسلل "حزب الله" والنظام السوري إلى داخل الاجتماع المسيحي اللبناني. المسيحيون غير خائفين من "السلفية" و"القاعدة" وأفلام الرعب الهزلي التي تسوّق لهم، لكن المسيحيين، أو قسماً كبيراً منهم، لم يستوعب بعد، لأسباب بعضها عقلاني وبعضها غير عقلاني، كيفية الانتقال من الجمهورية الأولى إلى الثانية، وهذا اللااستيعاب، وهذا التداخل المحتقن بين الأزمنة، هذا العيش المزدوج في زمني الجمهورية الأولى وما بعد الطائف في وقت واحد، هو الذي يشكّل الأرضية المثلى للحالة العونية، كما يشكل الأرضية التي تستثمرها هذه الحالة في شكل مضرّ بالصيغة اللبنانية، وأساساً بالإستراتيجية التاريخية الحديثة للموارنة، وذلك من خلال العزف على وتر "اللاسنية".
إن التحدي المتمثل بخروج الاستقلاليين اللبنانيين بتصور موحد حول قانون الانتخاب يجوز أن يكون معياراً للقدرة على وعي هذه الإشكالية. إشكالية "مصالحة" المسيحيين مع مرجعية "الطائف"، ومصالحة الطائف مع الإستراتيجية التاريخية للمسيحيين، وأساساً الموارنة.
وهذا التحدي يرتبط بأفق أوسع: وهو أن ضمور الحالات المؤيدة للنظام السوري و"حزب الله" في الوسط المسيحي، تترك فراغاً لا يمكن أن يملأه الاستقلاليون إلا بشكل قادر على الإجابة الصحيحة عن الأسئلة التي كان يطرحها عون والعونيون، إنما كانوا يطرحونها بشكل خاطئ ومضلّل ليجيبوا عنها بشكل أكثر تضليلاً.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك