كتب الأمين العام لجمعية المصارف الدكتور فادي خلف:
يسيل حبر كثير ويتبرع البعض لتحليل ما تريده المصارف وما لا تريده وفي النهاية هنالك حقيقة واحدة لا مجال فيها للفرضيات.
الفرضية الأولى:
يتبرع البعض بالقول بأن المصارف تعارض الكابيتال كونترول كونها تريد متابعة التحاويلإلى الخارج.
الحقيقة:
إن أية تحاويل مستقبلية للخارج لا يمكن أن تكون لصالح المصارف التي يتم تقييم استمراريتها حالياً من قبل الهيئات الرقابية والجهات الدولية بما تمتلكه من سيولة بالعملات الأجنبية النقدية. بالتالي، إن أية تحاويل للخارج ستُضعِف دون أدنى شك سيولتها بالعملات الأجنبية وتهدد استمراريتها، مما يجعل هذا التحليل ساقطاً حكماً.
الفرضية الثانية:
المصارف تعارض الكابيتال كونترول لأنها لا تملك ما يكفي لدفع الألف دولار شهرياًالمذكورة في المادة السادسة من مشروع القانون.
الحقيقة:
قد لا تتوفر السيولة الكافية حالياً لدى معظم المصارف لدفع 1000 دولار شهرياً كحد أقصى بحسب ما يتطلبه مشروع القانون، خاصة أن لكل مصرف إمكاناته المحدودة من السيولة ووضعه الخاص.
أما ما قد يشكل نقطة تلاقي للمصارف فهو متابعة تطبيق التعميم 158 بحسب المعادلة التالية: 800 دولار، نصفها بالليرة والنصف الآخر بالدولار النقدي على أساس 200 دولار يؤمنها المصرف المركزي و200 دولار تؤمنها المصارف من سيولتها. هذه المعادلة يمكن لعدد من المصارف الاستمراربمراعاتها وإن كان الواقع لا يؤكد أن مجمل المصارف ستتمكن من ذلك. بالتالي تبقىمتابعة تطبيق التعميم رقم 158 هي الأقرب إلى الممكن وكل ما عدا ذلك هوبعيد كل البعد عن الواقع ولن تستطيع المصارف التكيُّف معه.
الفرضية الثالثة:
يعلل البعض الآخر تأييد المصارفلقانون الكابيتال كونترولبحماية نفسها من الدعاوى عبر المادة 12 من مشروع القانون.
الحقيقة:
في ما يختص بالمادة 12 من مشروع القانون والتي تُعنى بالإجراءات القضائية فالجواب يأتينامن واقع الدعاوى الحالية،حيث أن قلة من كبار المودعين المقيمين في الخارج هم من يربحون الدعاوى ضد المصارف فيجففون سيولتها المفروض توزيعها بالتساوي على كافة المودعين عبر التعميم 158. إن ترك قلة من المودعين غير المقيمين يستأثربحقوق صغار المودعين الذين لا قدرة لهم على تحمل تكاليف الدعاوى في الخارج، هو الاستنسابية بعينها، حتى أضحى من الأصح تسميتها بدعاوى كبار المودعين ضد صغار المودعين.إن مواجهة الاستنسابية تكون بالحفاظ على ما تبقى من سيولة على قلتها لدى المصارف لاستعمالها بتسديد الودائع من خلال التعميم 158.
الفرضية الرابعة:
ينبري بعض المحللين بالافتراض بأن لا مصلحة للمصارف بالمضي بمشروع قانون إعادة التوازن للقطاع المالي أو بقانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي كونها تفضل الإبقاء على الوضع الحالي بهدف إستنزاف الودائع على مر السنين.
الحقيقة:
إن هذا الكلام يفتقد للدقة كون الأرقام تؤكد العكس. إنالانخفاض الذي شهدته الودائع بالعملات الأجنبية بحوالي 27 مليار دولار منذ بداية الأزمة يعود بمعظمه الى تسديد جزء كبير من التسليفات بشيكات وتحاويل مصرفية. أما وقد تقلصت التسليفات الى حوالي 12 مليار دولار،فان انخفاضالودائع سينحصر مستقبلاًبالسحوبات والتي قد لا تمثل أكثر من 2 إلى 3 مليار دولار سنوياً. بالتالي إن أي تذويب مفترض للودائع سيستغرق ما لا يقل عن 30 عاماً. هل يملك القطاع المصرفي ترف الوقت لينتظر عقوداً من الزمن مع ما يراكمه من خسائر سنوية وما يعانيه من تقليص لأعماله؟ هل من مصلحة المصارفوهي المتضررة من النزف الحالي أن تتوخى استمراره لعقود؟ بالتالي إن هذه الفرضية تعتبر ساقطة أقله من الناحية العملية للأمور.
الفرضية الخامسة:
يعتقد البعض عن خطأ بأن شطب الودائع يريح المصارف من التزاماتها.
الحقيقة:
إن شطب الودائع في حال حصوله سيكون هدفه الأول والأخير تملص الدولة من التزاماتهاتجاه المصارف بطريقة غير مباشرة، مع ما يعنيه ذلك من وضعالمصارف في مواجهة مع مودعيها. ستقف يومها الدولة ومؤسساتها، كما هي الحال اليوم، موقف المتفرج على صراع تسببت هي به ضمن القطاع الخاص. إن أفضل تشبيه يصح تصويره في هذا السياق، هو ذلك السائق المتهور الذي تسبب بحادث اصطدام بين باقي السيارات فيما لاذ هو بالفرار وراح يتفرج من بعيد على الضحايا،موَجِّهاً سيارات الإسعاف وفارضاً نفسه حكماً في توزيع المسؤوليات.
الفرضية السادسة:
صندوق استعادة الودائع هو الحل الأنسب للمصارف.
الحقيقة:
إن المصارف ترى في صندوق استعادة الودائع حلاً من الحلول الممكنة، على أن لا تعود وتُلقى على عاتقها النسبة الأكبر من تمويل هذا الصندوق،فيما تتحمل الدولة نسباً ضئيلة من التمويل عبر مساهمات بمداخيل افتراضية أكثر منها واقعية. إن الدولة إستهلكت 62 ملياراً و670 مليون دولار من أصل فجوة قدرها 73 ملياراً، أي 86% من الفجوة وبالتالي عليها أن تساهمبنفس النسبة فيتغذية صندوق استعادة الودائعبطرق عدّة ومنها على سبيل التعداد لا الحصر الشراكة مع القطاع الخاص، كما وتخصيصقسم من الموارد النفطية المتوقعة. ما هو عدا ذلك لا يعدو كونه عملية تملص للدولة من مسؤولياتها في هدر أموال المودعينومخالفة واضحة للمادة 113 من قانون النقد والتسليف التي تُلزِم الدولة بتغطية خسائر مصرف لبنان كاملة.
الفرضية السابعة:
الحل يبدأ من إصلاح القطاع المصرفي والباقي يتبع.
الحقيقة:
يكفي أن نعود الى السؤال الأساسي "كيف استُنزِفَت أموال المودعين؟" لندرك بأن إصلاح القطاع المصرفي ما هو الا جزء من الحل ولا يمكن أن يؤدي الغاية المنشودة منه إذا لم يترافق مع إصلاح جذري للقطاع العام. لقد هُدِرَت أموال المودعين لان القطاع العام إستهلك أموال القطاع الخاص ليُمَوِّل فساده. بمعنى آخر، لو تم إصلاح القطاع المصرفي وتم ضخ الأموال فيه، إن توفّرَت على قِلَّتها، سيعود القطاع العام من جديد ليستهلككل ما يُضَخّ، أكان بالطرق المباشرة أو غير المباشرة. إنهذا الواقع ما زال مستمرّاً أقله منذ عقود وما يُطلب اليوم من مصرف لبنان منتأمين لتمويل لكهرباء لبنانمقابل التسديد من الجباية يدخل ضمن هذا السياق وكلنا يعرف ما الجباية في لبنان. إن ضخ الأموال في السلة المثقوبة تحت وعود إقفال الثقوب لاحقاً لم يعد يتقبلهالاالمصرفيونولا المودعون.
الفرضية الثامنة:
إن المصارف هي من تعرقل الحلول والخطط المطروحة.
الحقيقة:
إن الحل والربط هو في يد المجلس النيابي، فلا الحكومة ولا مصرف لبنان ولا المصارف لهم الكلمة الفصل في هذا المجال. لقد أبدت جمعية المصارف كل تعاون وأعطترأيهابوضوح في تعميمها الصادر في الرابع من شهر تشرين الأول2022، أما القرار النهائي فيبقى للسلطات التشريعية وحدها.
الفرضية التاسعة:
يرى البعض بأن الأموال التي سيوفرها صندوق النقد غير كافية.
الحقيقة:
إن أهمية الاتفاق لا تكمن في 750 مليون دولارسيوفرها سنوياً الصندوق على مدى أربع سنوات ولا حتى بما سيوفره شركاء الصندوق وهم ينقسمون إلى قسمين؛
- الدول الخليجية وهي لديها شروطها السياسية المعروفة.
- الدول الغربية والمؤسسات الدولية والتي تنحصر مساعداتها بمشاريعمعظمها يتعلق بالبنى التحتية ودونها شروط لن تجعلها متاحة في المدى القصير.
أهمية الاتفاق هي في الإصلاحات البنيوية المطلوبة من قبل صندوق النقد والتي لن تكون فاعلة إذا لم تعالجعلى وجه الخصوصمكامن الهدروالفساد وتَرَهُّل القطاع العام، بالإضافة إلى ضبط المرافق العامة والحدود.
ملاحظة: إن هذا المقال هو جزء من سلسلة مقالات تحت عنوان "المصارف بين الحقيقة والفرضيات" يكتبها الأمين العام ضمن مقالاتهالإفتتاحية لعدد من النشرات الدورية لجمعية مصارف لبنان وهي تمثل رأيه وتحليله الشخصي للمستجدات، من دون أن تلزم الجمعية بمضمونها الذي يبقى على مسؤولية الأمين العام وحده.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك