مع انتهاء قضية المخطوفين الإيرانيّين الـ48 في سوريا، حيث يوحي إطلاقهم بأنّ قضية سائر المخطوفين من مختلف الجنسيات تتجه الى الحل، بما فيها قضية اللبنانيين التسعة المخطوفين في أعزاز، تبدو قضية المدوّنة الأوكرانية انهار كوتشنيفا من أكثر عمليات الخطف غرابة منذ اندلاع الأزمة السورية مقارنة مع حالات خطف أو احتجاز مشابهة.
السبب في هذا الالتباس، يعود إلى غموض طبيعة عمل كوتشنيفا، بدايةً كونها صحافية مستقلة او مترجمة تطالب بإطلاقها منظمة "مراسلون بلا حدود"، أو باعتبارها جاسوسة تعمل لصالح النظام. المعلومات التي سرّبها الخاطفون لـ "الجمهورية" تفيد بأنها كانت تعمل بإمرة ضباط روس داخل سوريا، وهم عمدوا أخيراً إلى بثّ شريط على "اليوتيوب" لإثبات أدلتهم .http://www.youtube.com/watch?v=pwDCtc0tOac
ويتضمّن الشريط اعترافاً من كوتشنيفا بأنها كانت تتولى مهمة الترجمة بين خبراء الأمن الروس ونظرائهم من ضباط الأمن السوريين، لا بل كشفت أيضاً أنها توجهت الى حمص بناءً على طلب آصف شوكت شخصياً. وللدلالة على ذلك، أرسلوا صوراً لها مع ضباط مخابرات سوريين، وأخرى على آلية عسكرية في منطقة بابا عمرو الشهيرة بمعركتها الضارية بين النظام والثوار السوريين.
والموضوع لا يقتصر على ذلك، بل ما كشفه الخاطفون لـ "الجمهورية" عن بطء في المفاوضات الجارية مع الجانب الأوكراني، يشير الى أمر ما, حيث اشتكى الخاطفون من عدم متابعة أوكرانيا القضية بالشكل المطلوب، وهم يؤكدون مجدداً أنهم لم يطلبوا فدية مالية، على غرار ما جرى مع الآخرين، بل طلبوا مساعدات إنسانية لصالح الشعب السوري والأطفال تحديداً.
عند التدقيق مع الخاطفين في طريقة العُقد التي تحكم مسار المفاوضات حول كوتشنيفا، يكشف هؤلاء ما اعتبروه وثيقة مهمة أرسلوها الى الاوكرانيين، وهي رسالة بخط يد كوتشنيفا تصرّح فيها بأنها مريضة وتعاني من مصاعب كبيرة، وتدعو الجانب الأوكراني إلى متابعة قضيتها. ويروي احد المتابعين لهذه القضية، أنها لا تزال حتى الآن عالقة عند طريقة التواصل بين الخاطفين والسفارة الأوكرانية.
ليس هذا وحسب، يقول الخاطفون إنهم جادّون حتى اللحظة في إتمام صفقة إطلاق كوتشنيفا، لأسباب إنسانية فقط، لكنهم يأخذون على الطرف الآخر عدم اكتراثه. ويكشف وسيط من المعارضة السورية، عن "فتوى شرعية استنَدَ إليها من خَطَف الأوكرانية، وهي عدم جواز احتجاز امرأة، مهما كانت الظروف، بل السعي الى إطلاقها، خصوصاً أن الوسيط يفيد أنه على رغم كون كوتشنيفا تحمل جواز سفر أوكرانياً وبطاقة صحافية، تشير بعض تقديرات الجهة الخاطفة الى ان عملها الصحافي ليس سوى غطاءً أمنياً لها لصالح الاجهزة الامنية الروسية، وهي تقضي وقتها الآن تطالب بالتواصل مع سفارتها ومع دولتها ولا تلقى الجواب المطلوب.
في تفصيلات عملية الخطف، ووفق المعلومات التي استقصتها "الجمهورية"، فإنّ مجموعة تابعة لـ"الجيش السوري الحر" احتجزت كوتشنيفا، بتاريخ 9-10-2012 أثناء توجّهها من طرطوس الى دمشق، حيث نُقلت بسرعة الى مكان ما داخل مدينة حمص يقع تحت سيطرة الثوار بالكامل. هناك تم التحقيق معها ومصادرة كل أغراضها. والمفارقة تبرز في أن حاجزاً عادياً تابعاً لـ "الجيش الحر"، أوقف السيارة التي كانت تقل كوتشنيفا، فأثارت ملامحها الأجنبية شُبهة عناصر الحاجز خصوصاً أنّ وجودها في منطقة خطرة للغاية أثار الاستغراب الشديد، إذ تزامن وجودها في طرطوس مع اندلاع الاشتباكات العسكرية في محافظة اللاذقية ودخولها على خط المحافظات المنتفضة ضد النظام. كما صودف اعتقالها في بقعة جغرافية حساسة جداً تحَفّظ "الجيش الحر" على كشفها، ولكنها تحمل لغزاً كبيراً، وحساساً جداً سيكشف عنه يوماً ما.
طلبت عناصر الحاجز أوراقها الثبوتية، فأبرَزت جواز سفرها الاوكراني، وقد لفتهم إتقانها اللغة العربية، فما كان من المجموعة الّا أن نقلتها بسرعة فائقة بعد تواصلها مع غرفة عمليات الثورة السورية في محافظة حمص. في التحقيقات الاولية، وبعد مراجعة تنسيقيات الثورة، تبيّن للخاطفين أن الإمرأة التي وقعت بين ايديهم، هي ناشطة أجنبية داعمة لنظام بشار الأسد، ولها سلسلة مواقف علنية، حيث ظهرت مراراً على القنوات التابعة للنظام، وبررت كل عمليات الجيش السوري، ودافعت بشراسة عن قتل النظام للشعب تحت مبررات المؤامرة الغربية التي تتعرض لها سوريا، كما اتهمت في مواقفها من يتولون الثورة، بأنهم قتلة مأجورون. وبعد تداول بين جهات متعددة من المعارضة السورية تقرّر احتجازها.
في الايام الأولى لاختفائها، ساد الغموض مصير كوتشنيفا، وتضاربت المعلومات حول خطفها أو مقتلها إثر قصف عنيف تعرضت له حمص في ذلك اليوم، فعمدَ سفيرا أوكرانيا وروسيا في دمشق الى إصدار بيان صحافي والمناشدة في الكشف عن مصيرها وطلب المساعدة لإطلاقها لدواعٍ إنسانية. لم تظهر أي إشارة لخطفها في وسائل الإعلام سوى مرتين: واحدة بعد شهر من خطفها وأخرى بتاريخ 28 تشرين الثاني 2012 عبر موقع "اليوتيوب". فيما زوّد الخاطفون "الجمهورية" مجموعة صور خاصة بها من داخل كومبيوترها الشخصي، تظهر كوتشنيفا برفقة ضباط أمن على ظهر آلية عسكرية، وتبيّن للخاطفين أنها مأخوذة أثناء معارك بابا عمرو الشهيرة، وهي تساند كتائب نظام الاسد.
وتشير المعلومات إلى أنّ بعد تفتيش الخاطفين الدقيق أغراض كوتشنيفا، عثروا على أرقام ورسائل قصيرة داخل هاتفها الخلوي تتعلق بضباط أمن سوريين وآخرين. هذا الأمر دفع الجهة الخاطفة إلى تشديد الإجراءات حول حماية سلامتها ونقلها الى أكثر من مقر لضمان أمنها والتمويه الدائم حول مكان احتجازها، خصوصاً أن تكهنات تولدت عند الخاطفين منذ البداية، لجهة أن كتائب الاسد، وفي حال التقاط إشارات حول مكان احتجازها، لن تتوانى عن قصفه واتهام الجيش الحر بقتلها لتأليب الرأي العام الدولي.
في الخلاصة، يمكن وصف خطف كوتشنيفا بالمراوحة؛ ليبرز تعدد الأطراف التي تدخلت من أجل الاطمئنان إلى مصيرها، ومن ثم ضمان سلامتها، من جهات خليجية وفلسطينية، وحتى قنوات لبنانية شاركت أيضاً في المساعدة. ولكن هذه المحاولات كلها لم يكتب لها النجاح، لأنها، بكل بساطة، لم تبلغ سوى عتبة الاطمئنان الى وضعها فقط من دون تخطي مرحلة تبادل الرسائل، ولم تبلغ أبداً درجة النقاش الجدي في الشروط لإطلاقها. ويلمّح هؤلاء الى عدم مبالاة طرف ثالث، وهو الجانب الروسي المعني بالقضية اكثر من غيره، لأسباب قد يكشفها الخاطفون لاحقاً، على رغم تأكيداتهم أنهم تجاوبوا مراراً مع اكثر من مسعى، والإيحاء للجميع بأنهم لا يرغبون بإيذائها أبداً، الامر الذي يوحي بأنّ مناشدة كوتشنيفا وطلبها المتكرر العمل على إطلاقها لم يلق آذاناً صاغية حتى الآن عند أصحاب القرار.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك