عن سوريّا وتركيا
NOW

منذ معركة مرج دابق في 1516 والرقعة التي باتت تُعرف بتركيا هي التي تؤثّر في الرقعة التي باتت تُعرف بسوريّا. الاستثناء الوحيد كان "الثورة الهاشميّة" في 1916 التي أخرجت "بلاد الشام" من السلطنة المتداعية وعجّلت في تداعيها. لكنّ القاعدة عادت تعمل مجدّداً، بحيث ضمّت تركيا لواء الاسكندرون في 1938، وحشدت قوّاتها على الحدود السوريّة أواخر الخمسينات، ثمّ هدّدت الرئيس الراحل حافظ الأسد، أواخر التسعينات، وحملته على تسليم عبد الله أوجلان.
الآن، سوريّا المنتفضة هي التي تؤثّر. فقد صدّعت نظريّات وزير الخارجيّة داوود أوغلو عن العلاقات الإقليميّة و"الصفر مشاكل"، وأوقفت حكّام تركيا على أقدامهم بعدما كانوا واقفين على رؤوسهم.
لقد قالت سوريّا إنّ "الصفر مشاكل" في هذه المنطقة أضغاث أحلام، وأنّ نموّ العلاقات التجاريّة غيوم صيف. لكنّها قالت أيضاً إنّ علاقات المودّة بين أنقرة وطهران اصطناع مخالف لطبيعة الأمور، حيث الصراع على العراق من سمات التاريخ المشترك للبلدين.
وليس من المبالغة الترجيح بأن تفضي الدروس السوريّة التي تتعلّمها تركيا إلى إعادة تمتين الأخيرة صلتها بـ"أمّها" الناتو، وإلى تغيّر في أشكال الصراع السياسيّ مع إسرائيل بحيث تتراجع شعبويّات الخطابات الأردوغانيّة ومسرحيّات السفن البحريّة لصالح ضغط عقلانيّ ومنظّم، يؤمل أن يفيد منه الشعب الفلسطينيّ، من داخل التحالف العريض الذي ترعاه واشنطن.
أبعد من هذا، ربّما جاز القول إنّ الأردوغانيّة، في ارتعابها من خطّ الزلازل السوريّة في جنوبها، قد تبحث في تراث الإسلام السياسيّ التركيّ عن محطّات سابقة: عن عدنان مندريس مثلاً، رئيس الحكومة الذي كان، في النصف الثاني من الخمسينات، من أعمدة "حلف بغداد" في مواجهة السوفيات والناصريّة، أو عن تورغوت أوزال، الذي تولّى رئاسة الحكومة في الثمانينات وأوائل التسعينات. ولئن اعتُبر الأوّل، الذي أعدمه العسكريّون في 1960، رمز التصالح بين الإسلام السياسيّ والاستراتيجيّات الغربيّة في المنطقة، فقد اعتُبر الثاني رمز تصالح الإسلام السياسيّ مع الليبراليّة الاقتصاديّة والانفجار الإعلاميّ لزمن العولمة.
وهذا، بالطبع، لا يعني المصادقة على سياسات مندريس وأوزال، كما لا يفضي إلى تبرئتهما من الشعبويّة التي اشتُهر بها أردوغان. ما يمكن قوله فحسب أنّ في ذاك التراث ما يشبه الظروف الراهنة أكثر ممّا في أردوغانيّة السنوات القليلة الماضية. وغنيّ عن القول إنّ الانتفاضة السوريّة هي صاحبة الباع الأطول في تشكيل تلك الظروف الراهنة.