جلسة الثقة: استيعاب الصدمة أم ركوب موجة المواجهة؟
الأخبار

من اليوم يتحوّل البرلمان مسرحاً صاخباً للسجال بين قوى 8 و14 آذار. باتت مناقشة البيان الوزاري لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي ثانوية حيال المشكلة الأكثر إثارة للانقسام واستدراراً للاتهامات: القرار 1757. أما نيل الحكومة الثقة فحتميّ بأصوات الغالبية النيابية

للمرّة الثانية بعد أكثر من ست سنوات، تواجه قوى 8 آذار أحد خياري استيعاب الصدمة أو ركوب موجة المواجهة. في المرّتين كانت تمثل الأكثرية النيابية. عام 2005، على أثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري، اختارت استيعاب هول الجريمة في الداخل، فانحنت للعاصفة وحاولت امتصاص تداعيات الاغتيال البشع عندما سلّمت بتأليف حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، ثم إجراء انتخابات نيابية أبرمت عبرها تحالفاً رباعياً انتقلت عدواه بعد الانتخابات إلى تأليف حكومة الرئيس فؤاد السنيورة. كانت قوى 8 آذار قد قبلت أيضاً الانحناء للانقلاب السياسي المفاجئ الناجم عن الاغتيال، عندما أسقطت في 28 شباط 2005 حكومة الرئيس عمر كرامي في مجلس النواب.
في تلك الجلسة، مجاراةً منه لاستيعاب الصدمة، أعطى رئيس المجلس نبيه برّي الكلام، في جلسة خصّصت لمناقشة جريمة الاغتيال، لـ11 نائباً من قوى المعارضة حينذاك، التي أضحت في الشهر التالي قوى 14 آذار، قبل أن يختمها بإعطاء الكلام للنائبة بهيّة الحريري التي حمّلت حكومة كرامي مسؤولية الاغتيال. في مطلع الجلسة المسائية المكمّلة للبرلمان، فاجأ كرامي الجميع، بمَن فيهم برّي، بإعلان استقالته. كان رئيس الجمهورية إميل لحود تلقّى، على أثر الحملات العنيفة التي قادها نواب المعارضة في الجلسة الصباحية، مكالمة من وزير في حكومة كرامي ينبئه بتوقّع استقالتها، بعدما اختارت قوى الغالبية النيابية الانحناء للعاصفة التي أتت بالحكومة الأولى لميقاتي.
لم يكن برّي، ولا حزب الله، ولا الباقون في قوى تلك الغالبية، وحدهم المنحنين. في الشهر التالي، قبل ساعات من انفجار الشارع في 14 آذار 2005 في ساحة الشهداء، ورغم قرار مشترك للأجهزة الأمنية اللبنانية والسورية بمنع التظاهر والتجمّع وقمعهما بالقوة، ترجمة لقرار حكومة كرامي، أوفد قائد الجيش العماد ميشال سليمان مدير مكتبه العميد وفيق جزيني إلى رئيس المجلس وحزب الله، يطلب استكمال الصدمة بإتاحة المجال أمام المتظاهرين المتدفقين إلى ساحة الشهداء لبلوغها، والحؤول دون منعهم من خلال إجراءات كان قد طُلب من الجيش اتخاذها لتنفيذ قرار منع التظاهر والتجمّع. وهكذا حصل.
كانت الحلقة الثالثة من خطة الاستيعاب التي أرغمت قوى 8 آذار على سلوكها، التسبّب ضمناً باعتذار كرامي عن عدم تأليف حكومة ثانية بعدما كلف ذلك. تفاقم الخلاف بين قطبين كبيرين في الغالبية النيابية على حقيبة مدرارة. وعندما أعياه الاتفاق وإبصار حكومته النور، طلب كرامي من لحود ورقة بيضاء وكتب عليها للفور، في أثناء اجتماعهما في قصر بعبدا في 13 نيسان 2005، اعتذاره عن عدم تأليف الحكومة.
بعد انقضاء أكثر من ست سنوات، يمثل الاستحقاق نفسه أمام الغالبية النيابية نفسها، وقد استعادت قوى 8 آذار السلطة. وهي اليوم، بدءاً من أولى جلسات مجلس النواب لمناقشة البيان الوزاري لثانية حكومات ميقاتي، بين أحد خيارين: مواجهة المعارضة الجديدة التي كانت معارضة 2005، أو التراخي مجدّداً أمام عاصفة القرار الاتهامي في اغتيال الحريري الأب بعد انحناءة كان قد أرغمها عليها اغتياله.
ما ينتظر جلسات مناقشة البيان الوزاري بضعة معطيات:
أوّلها: الدور الذي سيضطلع به رئيس المجلس في إدارة الجلسات، وهو بات اليوم في موقع مغاير بكليته لما كان عليه بين عامي 2005 و2008. في ظلّ الحكومتين الأوليين لميقاتي والسنيورة، لم يسعه إلا الاكتفاء بدور التهدئة، إلى أن استقال الوزراء الشيعة الخمسة، فأضحى برّي طرفاً في النزاع حينما طعن في شرعية حكومة السنيورة، وأوصد دونها أبواب البرلمان. في الحكومة الثانية للسنيورة ثم في حكومة الرئيس سعد الحريري عامي 2008 و2009، كان في صلب المحافظة على التسوية التي أبرمت حكومة الوحدة الوطنية. في جلسة البرلمان اليوم، يقيم برّي في قلب الأكثرية النيابية، وهو شريك رئيسي في حماية حكومة ميقاتي، الأمر الذي يحمّله وزر السيطرة على مسار جلسة اليوم، واليومين المقبلين، على نحو مناقض لما كان قد خبره مع حكومة كرامي عام 2005. واحدٌ في مقابل واحد، من دون أن يفسح في المجال أمام قوى 14 آذار لابتلاع قوى 8 آذار في مداخلات صاخبة بدعوى استيعاب الصدمة.
ثانيها: بعدما تلقّف رئيس المجلس وحلفاؤه، وخصوصاً حزب الله، صدمة القرار الاتهامي ـــــ وكانوا في كل حال يتوقعونه على نحو صدوره ـــــ باتوا معنيين بشنّ هجوم مضاد على الفريق الآخر. لا ميقاتي صورة مشابهة لكرامي كي يستقيل تحت وطأة التهويل والتخويف وتحميله المسؤولية، ولا عبء الضغوط التي يسع قوى 14 آذار ممارستها عليه كافية لحمله على التنحّي. بل الأصحّ أن الطرفين اللذين يملكان وحدهما مفتاح إسقاط الحكومة الجديدة، هما الفريقان المتحالفان فيها: رئيس الحكومة تبعاً لصلاحية دستورية تتيح له الاستقالة، والغالبية الحكومية التي تمسك بالثلث 1 بما يمكّنها من فرض استقالة الحكومة على رئيسها على نحو ما حصل مع الحريري الابن. كلاهما ليس في وارد التلاعب بمصير حكومة أنهكهما تأليفها تحت وطأة ضغوط الخارج والداخل.
ثالثها: تثق الغالبية بأن المعارضة تتوخّى ظاهراً من مناقشتها البيان الوازري الخوض في بند وحيد هو القرار الاتهامي وحمل حكومة ميقاتي على الإفصاح عن التزام غير مشروط للمحكمة الدولية. على طرف نقيض من ذلك، يبدو حزب الله أقل اهتماماً بصخب هذا الجدل، وينظر بقلق أكثر إلى القرار الاتهامي على أنه جزءٌ من كل لم يظهر تماماً إلى العلن. ويستعيد من التقرير الأول للمدعي العام للمحكمة القاضي دانيال بلمار، في آذار 2008، الفقرات 25 إلى 29 التي أسقطت اتهام الأجهزة الأمنية اللبنانية ـــــ السورية باغتيال الحريري الأب، إلا أنها ثبتت في ضوء ما اعتبرته أدلّة متوافرة لديها الاغتيال كفعل من صنع شبكة أفراد عاملين قبل الاغتيال وآخرين بعده، وأن بعض هؤلاء لا يزال فاعلاً. بذلك أسقط بلمار تهمة سلفه ديتليف ميليس لسوريا وضباط لبنانيين وسوريين كي يتوقف عند حلقة منفذين، وأبقى الباب مفتوحاً على من عدّهم جهات يمكن أن تكون وراء هؤلاء. ولم يكن قد أتى حينذاك على اتهام حزب الله بالاغتيال.
مغزى خلاصة حزب الله أن القرار الاتهامي هو أحد جوارير عدة يملك بلمار فتحها واحداً بعد آخر في مراحل متقدّمة من عمل المحكمة، فيصدر تباعاً لوائح اتهامية تطاول أسماء أخرى لا تكتفي بنقض ما قاله ميليس عام 2005، إلا أنها تمهّد لمواجهة شرسة بين حزب الله والمحكمة عبر الجوارير المؤجلة.