سليمان تقي الدين
السفير
كشفت المناقشات البرلمانية عمق الأزمة الوطنية. استعادت فصولاً من سبعينيات القرن الماضي التي ذكّرت بها بعض الخطب. علاقة السلاح بالداخل هي التي طغت على دوره في مواجهة إسرائيل. هذه مسألة يجب أخذها بالاعتبار. يحتاج اللبنانيون إلى تطمينات وضمانات في ما بينهم. المصارحة ضرورة كمدخل للمعالجة. ليس كل ما قيل على سوية واحدة من المصداقية، لكن بعض ما قيل يعبّر عن هواجس حقيقية. هناك إطار واحد لحل هذه المشاكل في أن يقوم حوار لبناء الدولة.
نظامنا السياسي، أيّا كان اسمه أو صفاته أو مرجعيته، ليس صالحاً لإدارة البلاد واحتواء الأزمات، ولا طبعاً للنهوض بلبنان ومعالجة التحديات. هذا الجدل الدائر منذ سنوات وهذا الانقسام حول القضايا الكبرى والصغرى يؤكدان الحاجة لمثل هذا الحوار الوطني بما يعنيه من مصارحة ومصالحة وتوافق. لا يعقل فعلاً ان تظل المهمات الأساسية للدولة خارجها. على الدولة أن تستعيد وظائفها ومسؤولياتها أو ان تنظّم وتشرّع وتحدد هذه الوظائف وتلك المسؤوليات. لن يعدم اللبنانيون القدرة على إيجاد نظام سياسي يلائم أوضاعهم إذا قبلوا قاعدة المساواة والحرية واختاروا طوعاً شكل علاقاتهم. هذه مسألة لا يجوز التهويل فيها وإبقاؤها في دائرة المحرّمات، كما يحصل عادة لدى كل تناول لفكرة تعديل النظام.
هناك من يعارض المس بالأعراف السياسية في تشكيل الحكومة لكنه يتغاضى عن تعطيل الدستور وعن إنشاء المؤسسات وصحة ممارستها. يقال في لبنان إن البرلمان هو مؤسسة الحوار الدائمة لاستيعاب النزاعات من الشارع. كان ذلك يصلح لزمن آخر. لقد جرت أمور كثيرة يصعب تعدادها. هناك مؤسسة أناط بها الدستور هذا الحوار، هي الهيئة الوطنية كمعبر إلى مجلس للشيوخ ليكون الهيئة الدائمة طالما نتحدث عن حوار بين جماعات. ليس مهماً المسميات لكن المهم ان اللبنانيين يحتاجون إلى مرجعية شرعية للتفكير معاً في قضايا عيشهم المشترك وتعقيداته. إن حجم القضايا الخلافية لا يسمح بتركها تتفاعل على منابر التحريض أو التحشيد الهادف إلى تطوير آليات النزاع. من وظائف السياسة أن تجد حلولاً سياسية سلمية للنزاعات لا تضخيمها أو تفجيرها. واقع الحال ان معظم الخطاب السياسي استبدادي يصادر الحقيقة ويسعى في احتكارها ويحجب الرأي الآخر ويلغيه. يصح في الديموقراطية ان يسيطر تيار سياسي أو جماعة سياسية على خيارات الدولة إذا كانت هناك دولة تعطي مواطنيها ضمانات عدم الاعتداء على حقوقهم وحرياتهم، وبالتالي عدم قهرهم. ما يحصل عندنا ان نزعات الغلبة لا تتم بأدوات الدولة وقانونها إلا في حدود ضيقة بعد ان جرى تفريغ الدولة من مضمونها وتعطيل أكثر وسائلها. السلاح والمحكمة الدولية وغياب العدالة والفساد والمديونية والامتيازات، على أنواعها، عناوين تدل على هامشية الدولة ونفوذها وهيبتها وسلطتها. لا يستطيع فريق من اللبنانيين ان يواجه كل هذه التحديات بمفرده وليس من حقه ذلك. يصح هذا في كل ما يعتبر قضايا أساسية أو مصيرية. تتحمّل البلاد كلها عملياً نتائج أي خيار كبير، ومن الضروري ان تحصل الشراكة في هذه الخيارات. لن يتم ذلك بواسطة تحالفات بين الجماعات بل بواسطة إدارة واحدة هي الدولة. يتعثّر تطور الوطنية اللبنانية التي تعرضت إلى نكسات خطيرة جراء سياسيات الاستفراد أو تجاوز منسوب المشتركات. في نظام يوزع مواطنيه على هويات طائفية ويوزع الامتيازات والحرمانات لا يمكن أن تتقدم الثقافة الوطنية. تحدد الجماعات مواقفها انطلاقاً من مصالح وتوازنات عابرة أو متغيّرة على المستوى التاريخي. بل إن هذه الجماعات كونت لنفسها سياجاً من المفاهيم والقيم والعلاقات المتناقضة لتقوية تماسكها السياسي. هذا المسار هو يعمم على كل طائفة موقعاً سياسياً تتلبّس به من قيادتها ونخبتها من غير ان يكون معبراً عن إجماعها الحقيقي المستحيل أصلاً. ليست الطوائف متحدات اجتماعية منسجمة ومتناسقة مهما اكتسبت من خصائص مشتركة بين أفرادها. لا يمكن معالجة النزاعات الطائفية بالتبشير ولا في مستوى النقاش الثقافي. أما ان تنفتح أمام الطوائف وسائل الاندماج الاجتماعي الوطني أو هي بالضرورة تتحول إلى جسم مغلق انعزالي معادٍ لمحيطه. تتشكل في العالم العربي طائفيات سياسية جديدة من حول الثقافات المذهبية لكنها تتغذى من أنظمة عملت على سد الآفاق أمام المواطنة بما هي حقوق متساوية وبما هي حريات. كان على لبنان ان يشكل نموذجاً ملهماً متقدماً لعالم عربي مأزوم على مستوى الحريات والثقافة الديموقراطية. لكنه اليوم يتراجع عن هذا الدور لسبب أساسي يتمثّل في وطأة التنازع الإقليمي وما يضخّه إلى القوى ذات الثقافات الحصرية. هكذا يتأكد ان استثمار الطائفية يكون فعالاً كلما ذهبنا في اتجاه الشعارات السياسية الكبرى وأغرقنا المجتمع فيها. أمام هذه المشكلات يتعاظم تأثير غريزة البقاء والأمن والعصبيات على حساب الوجود الاجتماعي الإنساني. يحتاج اللبنانيون إلى السلم السياسي ليستأنفوا مسيرتهم الديموقراطية وتجربتهم في الحداثة.