ساطع نور الدين
السفير
لم يكن انفصال دولة جنوب السودان عن الجسم العربي مفجعاً، ولن يكون مؤثراً في بقية أنحاء ذلك الجسم المصاب بأمراض أشد خطورة من النزعات الانفصالية، التي لن تستمد من التجربة السوادنية، الجنوبية والشمالية، زخماً جديداً، أو شرعية إضافية.
لا شك بأن ولادة الدولة الجديدة تدغدغ أحلام أقليات كثيرة في العالم العربي، قاتلت من أجل الاستقلال أو حتى الحكم الذاتي، لكنها لم تصمد مثل السودانيين الجنوبيين الذين قاوموا الطغيان العربي - الإسلامي طوال أكثر من خمسة عقود، ولم يكن استقلالهم هبة أو منحة أو مؤامرة، بل استحقاقا اضطر الشمال السوداني الى الاعتراف به والتسليم بنتائجه ولو الى حين.
حلم الانفصال لم يعد يراود بعض المسيحيين اللبنانيين ولا معظم الاكراد العراقيين ولا أحداً من الأقباط المصريين، ولا أي جنوبي من اليمنيين، أو أمازيغي في الجزائر أو المغرب. فقد سبق لهذه الاقليات ان توصلت الى بدائل آخرها الهجرة، لكن ابرزها تجديد البحث عن إمكان الاندماج في مشروعات وطنية حديثة، توسع هامش الحريات الدينية والسياسية، وتستبدل العصبيات القومية ثم الإسلامية التي حكمت العالم العربي على مدى القرن الماضي.
لهذه الاقليات، لن تكون مدينة جوبا، عاصمة الجنوب السوداني، مثالا أو مزارا. فهي مجرد تعبير عن فشل المشروع العربي والاسلامي الذي كانت الخرطوم في العقدين الماضيين أحد أسوأ مظاهره، وصارت الآن أحد أهم تحدياته، بعدما تخلت عن الخيار العسكري البائس، وقررت اللجوء الى وسائل اخرى أكثر ذكاء وفطنة من أجل احتواء الانفصال، واسترداد ما ضاع من الوطن، مستعينة بوعي مصري متجدد لأهمية تلك البقعة السودانية الاستراتيجية الغنية بالمياه والنفط، وبعرض عربي جريء على الجنوب السوداني أن يكون عضواً في جامعة الدول العربية.
وأمام هذا المخطط البارع لاستعادة الدولة المتمردة على الشرعية العربية التقليدية فرصة للنجاح، بناء على ذلك التسامح العربي المستجد مع الاقليات، والذي يعتمد على واقعية وطنية طارئة أنتجتها ثورة الغالبية الشعبية العربية (السنية) ذات الافق المدني والليبرالي والديموقراطي، الذي يلغي أشكال التطرف القومي أو الديني، ويعطل احتمالات الحرب الأهلية التي تلوح بها الأنظمة الموروثة من حقبة ما بعد الاستعمار الاوروبي.
وهي فرصة سهلة جدا، اذا ما تطور النظام في الخرطوم وتحول الى حكم ديموقراطي ينتمي الى ثقافة العصر ولغته، عندها يمكن أن يعود الجنوبيون الى حضن العاصمة الام والوطن الواحد، وربما لاحقا الى حضن الامة التي تناضل شعوبها هذه الايام من أجل إعادة إنتاج مشروعاتها الوطنية الضائعة، وصياغة هويتها القومية الجامعة.. من دون ترهيب الاكثرية، ومن دون تخوين الاقليات، ومن دون أي خداع بالصراع مع الاجنبي، سواء كان اسرائيليا أو أميركيا أو غربيا.
لكن الخرطوم يمكن ان ترتكب مرة اخرى حماقة الخروج الى الحرب على المنشقين الجنوبيين، عندها قد تشعر بقية الاقليات في الوطن العربي، بأن الوقت قد حان للدفاع عن النفس وتجديد طموحاتها الانفصالية.. التي تمثل سلاحها الاخير قبل الهجرة الاخيرة.