طوني عيسى
الجمهورية
لا يريد رئيس الجمهورية ميشال سليمان إضاعة الفرصة ليلقي بأوراقه على الطاولة ويقول: "هذه جمهوريّتي"! أو بالأحرى: "لكم جمهوريّتكم ولي جمهوريّتي"! وما يبدو متعذّرا تحقيقه "دفعة واحدة" في بعبدا، يمكن أخذه تسلّلا أو بالنقاط عبر "بروفا" له في عمشيت، وبمباركة بطريركية، في ليلة عيد مار شربل.
يريد الرئيس أن يقول، إذا كنتُ صامتا لخمسة أشهر استغرقتها عملية تأليف الحكومة، فهذا لا يعني أنني سأعتاد على الصمت وقلّة الحركة. والصحيح هو أنّ ما "صمد" من صلاحيات فعلية للرئاسة بعد الطائف يكاد يختصر بمرسومَي التكليف والتأليف. و"قيادة" مجلس الوزراء ليست في يده. ولذلك يضطرّ الرئيس الى "ابتكار" أدوار للرئاسة من خارج الأطر الدستورية، وتحت العنوان المعنوي، كمثل "الرئيس أبٌ للجميع". ورعايته الحوار الوطني هي أبرز مهمّات هذه الأبوّة.
أبٌ لأطراف يتصارعون
لكن الرئيس أب لأطراف يتنازعون حول كلّ شيء: الحصص والميراث والقيادة، ويتوزّعون ولاءات وانتماءات، ويسعى بعضهم أيضا الى الحلول محلّ "أبيه" لأنه ينكر عليه حقه في الأبوّة!
قبل ميشال سليمان، استعان الرئيسان الياس الهراوي وإميل لحّود بسوريا لتعويض النقص في الطائف. اليوم يعوّض الرئيس تجربة جديدة. فموزّع الأرزاق لم يعد هنا ويضطرّ الرئيس الذي لم يأتِ من زعامة شعبية مسيحية إلى تقليع شوكه بيديه، وهو يواجه ضغوط الذين يشاركونه السلطة من داخل أهل البيت المسيحي وخارجه. ولا يبدو في الصف المسيحيّ سوى البطريرك ملجأ له، بعدما بات مسيحيّو 14 آذار في المعارضة.
لكن الخطر عليه هو أن يجد نفسه أو يجد من يقنعه بأنّه يستطيع الاستعانة بقوّة من خارج الدستور، تعوّضه غياب الراعي السوري. وهناك متبرّعون عديدون في الداخل لهذا الدور. وعندئذ تصبح الرئاسة أسيرة لهؤلاء كما كانت أسيرة لسوريا في مراحل سابقة، خصوصا إذا كان هؤلاء أمناء على سوريا في لبنان بعد غيابها.
أراد الرئيس أن يدشّن العهد الحكومي الجديد بمبادرة جذَبَ فيها أركان الجمهورية جميعا إلى حميميّة داره في عمشيت. فاللقاء هناك له رمزيّته، ويصلح لكسر الجليد الذي يعطّل الصعود إلى بعبدا. وخلاله تفنّن الرئيس نجيب ميقاتي في التعبير عن حبّه المكبوت لأحد أبرز الداعين الى "سقوط حكومة حزب الله"، فارس سعيد حتى ظنّ البعض أنه سيدعم موقفه في إسقاط الحكومة، أو سيتحالف معه في طرابلس في انتخابات 2013!
لكن سليمان بمشاوراته للتحضير لـ"أطُر حوارية"، يريد إثبات حضوره في مواجهة الطامحين الى استضعافه أو استيعابه تحت جنباتهم، وهو يعرفهم جيّدا، وله طريقته أيضا في "استيعابهم".
لكن مشكلته ليست في مبدأ الدعوة الى الحوار، بل في المادة التي تنتظر المتحاورين على الطاولة. والجميع يتذكر أنّ جلسات الحوار كانت تحوّلت في آخر عهدها إلى مجرّد تأدية للواجب، فلا أحد كان مقتنعا بأنّها ستثمر، كما أنّ أحدا لم يكن قادرا على مقاطعتها لئلّا يُتّهم بأنه يعرقل "الحوار الوطني".
والبند الوحيد الذي كان يجب أن تناقشه طاولة الحوار وتحسمه، أي "الاستراتيجية الدفاعية" أدلى الجميع بما لديهم تجاهه إلّا المعنيّون، واذا كان الأمر كذلك في ظل حكومتَي فؤاد السنيورة وسعد الحريري، فكيف سيكون الأمر في ظلّ حكومة ميقاتي وبيانها الوزاري المثلّث الأضلاع، جيشا وشعبا ومقاومة؟
مرتا... والمطلوب واحد
في الحوار!
ومن هنا يبدو الرئيس سليمان في صدد الكلام ليس على استئناف لجلسات الحوار، بل على "أطُر حواريّة" تحمي لبنان. وهذا يعني صيغة جديدة من الحوار ربّما في الشكل والمضمون، تعبّر عن المرحلة السياسية الجديدة، في ظلّ الغالبيّة الجديدة.
هذه الغالبية تستعجل اليوم رمي المواد المختلفة على طاولة لم يكن مطلوبا منها سوى مناقشة ملفّ واحد. وسيؤدّي تراكم المواد الى خلق "ملهاة حوارية" جديدة وربّما يريد الرئيس من خلالها التفتيش عن مخارج لمأزق صلاحياته. لكن أيّ ملفّ بما فيها الصلاحيات لن يكون في متناول المعالجة العميقة والتوصل إلى حلول. والجميع يدرك ذلك، ولهذا السبب يرفض فريق 14 آذار الانخراط في مسرحية حوارية جديدة تملأ الوقت وتوحي بمظاهر الديمقراطية والمشاركة.
ولكن هل سيجد الجميع أنفسهم أمام إحراج مراعاة الرئيس الأولى في دعوتها بعد "تدوير الزوايا" حول برنامج الحوار المنتظر، ومنعا لاتّهام أحد بالعرقلة؟