نادر فوز
الأخبار
ماذا يفعل أعضاء الأمانة العامة لقوى 14 آذار؟ كيف، في الأساس، تجتمع هذه الرؤوس في مكتب واحد؟ المنفذ الوحيد أمامها اللجوء إلى «التقريق»، أو «الأنغلة» كما يحلو للموجودين في المركز وصف الجوّ. هو ناد للمتقاعدين ومقهى للحاضرين يشبه مقهى الدروندي، ومركز للتواصل مع الجميع... أقلّه بالنسبة إلى منسّقها فارس سعيد
الأشرفية. فندق لو غبريال وأناقة زواره. رائحة سيجار نزلاء الفندق تجتاز الطريق وتصل إلى موقف سيارات للعموم. عند هذه الضفة لا شيء يوحي بـ«الفخفخة». مدخل عادي لشقّة بوّابتها نال منها الزمن وحرارة الشمس، ولافتة قديمة تشير إلى «كايبل فيجن»، أو شركة لتوصيل «الدش». حتى الآن لا شيء يوحي بأنّ في المكان مركزاً لقوى 14 آذار. سيارات عادية متوقفة أمام المدخل وحضور مفاجئ لعنصرين من قوى الأمن الداخلي يحاولان التلطّي في فيء الشجيرات المحيطة. كل همّ هذين العنصرين إرشاد الزوار إلى المدخل الأساسي للشقة ومنع الوصول إليها من باب المطبخ حيث تجلس أنطوانيت وتعدّ القهوة. يحاولان الإيحاء بأنهما حاضران في هذه الوظيفة المملّة التي تقتضي الحراسة. وعندما يباغتهما أحد الضيوف، يرتبكان ويسألان عن الوجهة. وبهدوء مصطنع يرافقان الضيف إلى الداخل ويعودان باستعجال لمتابعة حديثهما عن السيارات أو أسعار الشقق.
هنا مقرّ الأمانة العامة لقوى 14 آذار. وأجمل ما فيه أن أي متكلّف أو مدّع يحضر إليه هو عرضة لـ«الأنغلة»، بوجوده أو غيابه. فأصحاب هذه «الدار» لا يوفرون أياً كان من تعليقاتهم الساخرة. وانسجاماً مع أجواء المزاح هذه، يمكن القول إنّ هذه الشخصيات تحاول اختصار الخريطة السياسية العامة؛ ففيها «الحكيم» فارس سعيد، ولها جنرالها ريمون معلوف، وبَيْكها سمير فرنجية. وأحياناً يحضر النائب السابق منصور البون لزيارة سعيد، أو الشيخ منصور البون (بالإذن من آل الخازن)، إضافة إلى محمد شمس الدين الذي يجوز تلقيبه بـ«السيّد» لكونه الشخصية الشيعية الوحيدة الفاعلة في الأمانة. وماذا عن إلياس عطا الله؟ الجواب بسيط، هو يعتبر نفسه يسارياً وشيوعياً، وبالتالي لا يريد أياً من هذه الألقاب الاجتماعية.
هذه أبرز الوجوه التي تحضر إلى الأشرفية كل يوم لتتشارك الآراء والهموم. أما الشخصيات الأخرى التي تظهر في صور اجتماعات الأمانة العامة، فغالباً ما تزور المقرّ يوم الأربعاء، تصدّق شكلياً على البيانات التي يصوغها سعيد (يرفض الأخير الاعتراف بهذا الأمر).
كيف تجتمع كل هذه الوجوه والآراء في مكتب واحد؟ كيف يجتمع شارل جبور ذو الماضي القواتي مع سمير فرنجية أحد الفاعلين في الحركة الوطنية؟ أو إلياس عطا الله، صاحب حركة اليسار الديموقراطي، كيف له أن يجلس ويتحالف مع نوفل ضو أو العميد المتقاعد معلوف ابن السلطة الأمنية وأحد معاوني جوني عبدو في مديرية المخابرات في الجيش والمكتب الثاني؟ إما أنّ هذه الشخصيات قد تنازلت عن مبادئها ومعتقدها، وإما أن أحد الطرفين أقنع الآخر بتغيير موقفه. أو في تحليل آخر، وضعوا كل خلافاتهم جانباً (وهم يزكّونها في معظم الوقت من باب «التقريق») وقرروا الدوران حول أفكار معدودة، مع اعترافهم بأنه بعد النجاح في تنفيذ هذه الأفكار سيعود الخلاف السياسي كما في السابق! ربما.
مقرّ الأمانة العامة يحمل أكثر من وجه. فهو ناد للمتقاعدين. من يحضر إلى الأمانة العامة، عدا المسؤولين فيها، معظمهم تجاوزوا الخمسين أو الستين من العمر. يمرّون على المركز مرة أو مرتين في اليوم، قبل الظهر وبعده، يشربون القهوة التي تقدمها أنطوانيت، ويسألون «ما العمل؟». يهربون منها لتناول طعام الغداء مع العائلة أو بحجة أنّ ثمة «بعض الحاجيات التي طلبتها المرا». ثم يعودون ويغطّون في المركز بعد الظهر للقيام بالمهمة نفسها.
والأمانة العامة هي أيضاً مقهى، لا يكاد ينقصه سوى طاولة النرد والنراجيل. ففي أكثر أوقات النهار، حتى حين تكون النقاشات جدية، ليس بيد سعيد ورفاقه سوى «الأنغلة» بعضهم على البعض. وعادة ما تكون أولى الضحايا النائب السابق إلياس عطا الله الذي يحتجّ ويهدّد الجميع بأنه «خلص بقا». ومن أهم «الأنغلات» التي يجري استذكارها من حين إلى آخر «حدّودة» الكعك العصروني، أو الوليمة المفضّلة لفارس سعيد. قصة العصروني تعود إلى عام 2005، إلى ما بعد 14 شباط بأيام، حيث كانت تجتمع مجموعة من شخصيات البريستول في مكتب سعيد في المستشفى على المتحف. كان سعيد يقدم الكعك العصروني للجميع، «صبح وضهر وعشية». في أحد الأيام، أمسك الوزير وائل أبو فاعور كتف رفيقه إلياس عطا الله ونبّهه: لو تمكّنوا منك بدل الرئيس رفيق الحريري، لكنّا اليوم جالسين في قريطم نأكل رز على دجاج، مش أحلى من الكعك!
وأحياناً، مقرّ الأمانة العامة مقهى فعلي، فيجتمع مرافقو هذه الشخصيات حول طاولة بلاستيكية مستديرة، يخلطون ورقين للشدّة ويلعبون الـ14، كما لو أنهم عاجزون عن تجاوز هذه التسمية وهذا الرقم.
أجواء «الأنغلة» تسود الأمانة العامة حتى حين يكون النقاش مشتعلاً في قضايا مهمّة «نسبياً»، مثل الموقف من سوريا أو مشروع إسقاط الحكومة أو حتى ظروف قيام 14 آذار عام 2005. ثمة اعتراف بأنّ هذه الحركة قامت بالصدفة، ولم تكن سوى ردّ فعل على تظاهرة يوم 8 آذار، وأنّه لا قيادة البريستول ولا المسؤولون الغربيون توقّعوا هذا الحشد يوم 14 آذار. تتضارب الآراء بشأن السقف السياسي الذي رسمه الغربيون لانتفاضة الاستقلال. ثمة من يقول إن السقف الأميركي المتوقع كان محدوداً جداً، يقضي بانسحاب الجيش السوري إلى البقاع، فيما آخرون يقولون إنّ الأميركيين دعموا وأسهموا في إسقاط سوريا في لبنان. وهو نقاش لا ينتهي إلا بـ«العياط» أو بأسلوب أحلى: يتهم فارس سعيد عطا الله بأنه يساري مضى عليه التاريخ، أما الأخير فينهر سعيد لكونه تخلّى عن الإرث السياسي لعائلته اليسارية وانخرط في مشروع اليمين الراديكالي.
القيّمون على الأمانة العامة يرون أنها صلة وصل بين كل مكوّنات 14 آذار. يبتسم سعيد ومن حوله عند تلقيب المقرّ بـ«قهوة 14» أو ناد للمتقاعدين، ويكتفون بالقول: «إذا هيك مفكرين، ما عنّا مشكلة». يقول سعيد عن المقرّ إنه «شبكة في الداخل ومع الخارج تجتمع فيها كل الداتا اللازمة والموجودة، إذ يضع كل طرف أو حزب في 14 آذار الداتا خاصته في الأمانة العامة». واليوم، يسعى سعيد ورفاقه إلى ابتكار بنك للمعلومات ودراسات، تكون مهمته تموين الحلفاء بكافة المتطلبات عند أي إطلالة إعلامية أو سجال.
نقاشات المعارضين
يحاول فريق الأمانة العامة جعل المقرّ محطة للنقاشات الداخلية، فيدعون الحلفاء إلى حلقة أسبوعية تحاضر خلالها إحدى الشخصيات المعارضة، ثم يطرح الحاضرون هواجسهم المشتركة لعلّ الضيف الجديد يبدّدها أو يفسّرها أو يضع خطوات للتخلص منها.
معظم الأسئلة التي يطرحها المعارضون هي عمّا «بعد سقوط النظام في سوريا». فهم حاسمون بأنّ الرئيس بشار الأسد انتهى. لكن ما داموا جديّين بهذا الطرح، فلماذا يستمرّون بنقاشهم الأساسي في دعم الانتفاضة في سوريا؟ لا جواب سوى أنّ «النظام سقط».
في إحدى حلقات النقاش، كانت الأسئلة تُظهِر ما يدور في عقول الآذاريين. يعترض أحد الشبان على طريقة تعامل فريقه مع الملف السوري. يتحدث بإحباط كيف أن قوى 14 آذار لا تملك الشجاعة لخوض المعركة الإقليمية القائمة. الأهم أنه يسأل عن زيارة الكاتب السوري ميشال كيلو لبيروت قبل عشرة أيام: «هل علمتم أنه كان في البلد؟ لقد أتى وجلس مع مسؤولين في 8 آذار ومع صحافيين في جريدتي الأخبار والسفير. هل التقى بكم؟ هل ناقشكم»؟ يجيب: «لا. أتعلمون لماذا»؟ لا يعطي الوقت للضيف والقيّمين على الأمانة العامة للإجابة، فيفجّر قنبلة قبل أن يجلس في مكانه: «لأننا zero، لا وزن سياسيّاً لنا ولم نعد نمثّل أحداً».
الحديث عن زيارة ميشال كيلو لبيروت يعيد فتح نقاش داخلي بين المعارضين. في الأمانة العامة، يصرّ سعيد على أنّ التدخل في الأزمة السورية لا يساعد الشعب السوري، فيما يرى آخرون أنّ من واجب 14 آذار مساعدة أي شعب للتحرر، فكيف إذا كانت الانتفاضة حاصلة في سوريا؟ أليست هذه الانتفاضة مقدمة فعلية للتخلّص من النظام السوري وحلفائه في بيروت؟ بين هذه الأسئلة وإصرار سعيد اعتراف من قبل معظم الموجودين في الأمانة العامة بأنّ خروج سوريا من لبنان لم يلغ فريقها، وأنّ العلاقة لم تصطلح يوماً، وأنّ الانتهاء من «الاستبداديين» لن يحصل قبل الانتصار الإقليمي.
يقع منسّق الأمانة العامة لقوى 14 آذار في مآزق عديدة خلال وجوده في المقر. صحيح أن له مكتباً خاصاً به في آخر الرواق، وصحيح أنّ الجميع يلجأ إليه للاستشارة، وصحيح أنه المسؤول الأول عن المركز، لكنه مضطر إلى معالجة كل التفاصيل، الصغيرة والكبيرة. مثلاً يوم 19 تموز الماضي، عيد مار إلياس، أصرّ سعيد على معايدة كل «إلياس» موجود في المقر. حتى هذا التفصيل أتعبه، لكون الستّ أنطوانيت لم تنفذ القرارات كما يجب.
الست أنطوانيت
وللست أنطوانيت قصة طويلة في الأمانة العامة. فهي «حبيبة قلب» الجميع. تزوّدهم فناجين القهوة وأكواب الماء خلال الجلسات والاجتماعات. وتتصدّر أخبار أنطوانيت «سردات الأنغلة». ويروى عنها أنه خلال أحد الاجتماعات الموسّعة لقوى 14 آذار، طلب منها الحكيم إحضار فنجان قهوة للمسؤول الإعلامي في تيار المستقبل (حينها) راشد فايد الذي دخل لتوّه إلى الاجتماع. غابت أنطوانيت لدقائق وعادت بالفنجان. بين الجميع، لم تلحظ سوى النائب دوري شمعون، لم تزح عينيها عنه، توجّهت إليه ووضعت القهوة أمامه. حاول سعيد استدراك الأمر: «هذا الفنجان للأستاذ راشد». هزّت أنطوانيت يدها «مِنجبلو غيرو». ولَوْ! الأهم بالنسبة إليها الأستاذ دوري، فهو من آل شمعون وابن فخامة الرئيس، أما الوجه الآخر فمن هو؟
أنطوانيت، يحاول البعض إيجاد العريس المناسب لها، لكن ذلك لن ينفع لكونها أتت إلى الأشرفية في السبعينيات و«تبنّت القضية» ولم تتركها منذ ذلك الحين. وهي رغم كل ما يجري حولها من «طلبات» و«تقريق»، تقوم بواجبها على أكمل وجه، من دون اعتراض ولا «تأفّف». وإذا خطر في بالها أي تعليق، تقوله دون أي تردّد، ما يضفي على أجواء الأمانة قسطاً أكبر من نبذ التكلّف.
قوة سعيد تكمن في كونه قادراً على التواصل مع الجميع، أقطاب 14 آذار ونوابها، ويستطيع تحمّل أهواء «صغارها» وآرائهم. مثلاً، أحد «فروخ» 14 آذار يرسل ممثلاً عنه للمشاركة في اجتماعات الأمانة العامة، يستقبله سعيد بكل ترحاب ولو أنه يجعل من هذا الشخص موضوع جلسات «الأنغلة». ومثل آخر، حين يتحوّل المقرّ مزاراً للمرشحين خلال استحقاقات انتخابية، نيابية أو نقابية. يستضيفهم سعيد بهدوء ويستمع إلى مطالبهم بشأن تسويقهم بين الناس وإظهارهم في الإعلام وتوسيع دائرة معارفهم. يقوم سعيد بهذه المهمة بكل راحة ضمير، ولو أنه يعلم في قرارة نفسه أنّ هذه الوجوه لن تعود إلى الأشرفية إلا بعد فترة وللغرض نفسه. وهو يضطر إلى التعامل مع «تانتات الأشرفية» اللواتي بدأن بالحضور إلى الأمانة العامة منذ عام. يشاركن في النقاشات ويتحدثن وينتظرن الغزل بـ«شقارهن» أو ببشرتهن السمراء ليعلقن: «هيدا مش بغونزاج (برونزاج)، البشرة سمغا (السمرا) سمغا (سمرا)».
أمام كل هذا «العناء»، تسأل سعيد عن الموازنة المخصصة للأمانة العامة. يضحك. خمسون ألف دولار؟ يجيب أحد الحاضرين: «لا يسمحون لنا بتشغيل المكيّفات». 100 ألف دولار؟ الجواب نفسه مسبوقاً بـ«عن نقلّك ما مخلينا ندّور المكيفات». أكثر من يعاني من هذه الأمور معاونا سعيد والوجهان الحاضران بلا ملل في الأشرفية، طوني حبيب وجوزف كرم. الأول لا يتخلى عن اللابتوب حتى حين تكون الجلسة في مكتبه، والثاني قليلاً ما يشارك في الجلسات، فيفضّل تدخين غليونه خلف مكتبه في غرفة الاجتماعات. يكتب على الكومبيوتر ويطبع الأوراق اللازمة، يمرّرها لسعيد. يحافظ على إيجابيّته دائماً، مهما حصل، ويعيد البعض ذلك إلى جلوسه الدائم مع سمير فرنجية ومحمد شمس الدين اللذين يبثّان الإيجابية في كل الظروف.