يوسّع معمر القذافي دائرة المذبحة التي ينفذها ضد الثوار، عبر أسلحة الطيران والمدرعات والصواريخ التي تدك الزاوية ورأس لانوف منذ يومين، في وقت اتسعت دائرة التردد المعيب في الأمم المتحدة والعواصم الغربية، حيال اتخاذ موقف أو اجراء اخلاقي وسياسي مسؤول، يحول دون البطش الدموي الذي يلحق بالثائرين على النظام المتوحش.
كان من بواعث التقزز ان يبدو مجلس الأمن في حال انتظار، قبل ان يبحث عملياً في اتخاذ قرار يفرض حظراً جوياً يوقف سلاح الطيران الليبي، ويحول دون استمرار تدفق المرتزقة على القذافي، من الجزائر ومالي والنيجر وتشاد.
ان مسخرة المساخر ان يقال أمس، إن مجلس الأمن ينتظر نتائج اجتماعات عدة ستعقد هذا الأسبوع، ومنها اجتماع وزراء الخارجية في الجامعة العربية نهاية الأسبوع، ولكأن في وسع هؤلاء ان يقرروا أمراً مفيداً في هذه المرحلة الزلزالية التي تضرب دولاً عربية عدة، أو أنه ينتظر اجتماع دول الاتحاد الافريقي الذي سبق له أن نصّب القذافي ملكاً للملوك عليه ويا للسخرية.
أما الحديث عن انتظار قرار يتخذه اتحاد الدول الاوروبية فسيطول هو أيضاً في ظل الانقسامات المعروفة.
إذاً يستطيع نيرون أن يمضي في احراق ليبيا، ويستطيع العالم "الحر" ان يقف معه متفرجاً، والى مدى ليس من المعروف متى ينتهي وعلى اي أساس وبأي أثمان كارثية يدفعها الشعب الليبي.
ومن المفيد أن نتذكر مثلاً أن روسيا التي تتخوف من ضياع عقود تسليح للقذافي قيمتها أربعة مليارات دولار فتعارض أي تدخل ضده، ليست أسوأ من الصين، التي ترفض اي تدخل يردع النظام الليبي الماجن الدموي لكنه المصدر للنفط(!) وان الإثنتين ليستا في النهاية أسوأ من أميركا باراك أوباما الذي يحرص على موازنة سيول الدم المسفوح من الليبيين بتصنع تصعيد اللهجة ضد القذافي!
واضح أن أميركا أوباما تنوء تحت درسين قاسيين وتعاني أيضاً في موضوع ليبيا عقدتين مهمتين. أما عن الدرسين فانهما تحديداً حرب العراق الفاشلة التي كلفت تريليون دولار، وحرب افغانستان المتجهة الى الفشل وقد كلفت هي أيضاً تريليون دولار، فهل تنزلق الى حرب ثالثة في شمال افريقيا تثير على ما يبدو ذعر روبرت غيتس والبنتاغون؟!
وأما عن العقدتين فإنهما عقدة الاحساس بالذنب "الاخلاقي" وهي تسمح للقذافي بذبح شعبه بالصواريخ، تقابلها او بالأحرى توازنها عقدة الحذر من التدخل من دون غطاء مجلس الأمن، فتبدو اميركا كأنها صانعة الثورات العربية وراعيتها!
أمام هذا الموقف الدولي المثير للاستهجان، لا شيء يوازي جرائم القذافي المتمادية ضد الليبيين، إلاّ "جرائم" الصمت والتردد والدأب على اصدار البيانات الفارغة والتصريحات التافهة وخصوصاً من هيلاري كلينتون، تعليقاً على المذابح المتسعة في ليبيا.
واذا كانت الصحافة الأميركية قد دأبت منذ فترة على تسمية أوباما "البطة العرجاء"، فإن الأمم المتحدة تبدو الآن أشبه بدجاجة تنازع البقاء، وسط شبكة واسعة من المصالح المتناقضة، التي لم تسقط الاخلاقيات التي قامت عليها "عصبة الأمم" فحسب، بل جعلت من المنظمة الدولية أحياناً، أشبه بردهة للبورصة والمقايضات حيث يبدو ان الاسهم الأكثر رواجاً هي النفط مقابل الدم!
في مقال كتبه آرنو دوبورشغريف في صحيفة "واشنطن تايمز" The Washington Times" بعنوان "فخ التورط في شمال افريقيا"، أن القذافي يملك إمكانات هائلة للانتقام الدموي: 227 مقاتلة روسية وفرنسية وشبكة كبيرة من صواريخ "سام 2" و"سام 6". وان هذا يفرض شل هذه القدرات كمقدمة للحظر الجوي.
فإذا صح ان فرض الحظر فوق العراق عام 1991 استلزم استعمال أكثر من مئة طائرة، إضافة الى "الاواكس" والى 12 سفينة حربية وأكثر من 10 آلاف عسكري، وبلغت تكاليفه 14 مليار دولار، فإن تكرار ذلك في ليبيا الآن لا يبدو أمراً مستحيلاً أو صعباً، على حاملتي طائرات أميركيتين قبالة السواحل الليبية، ولا على اسلحة الجو في الحلف الاطلسي. أما عن المليارات فقد تم حتى الآن حجز عشرات المليارات من أموال القذافي، وهي تكفي لفرض حظر جوي على القارة الافريقية كلها!
إذاً لماذا التردد؟ وهل القصة قصة سياسة في العمق؟
وهل استيقظت في مطابخ الاستراتيجية الاميركية مخاوف من قيام عالم عربي جديد على النموذج التركي مثلاً، يقف وقفة الند في وجه أميركا والغرب، ويجعل من اسرائيل الحي اليهودي في العالم العربي، أم أن أوباما وزعماء الغرب يصدقون ترهات القذافي عندما يقول انه يحميهم من "القاعدة" ولو قام بذبح آخر ليبي حرّ؟!
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك