عندما نفّذ محور النظام السوريّ - إيران - "حزب الله" الإنقلاب في كانون الثاني الماضي، أعلنت 14 آذار الإنتقال إلى المعارضة، ثمّ منذ تشكيل حكومة الإنقلاب في أيّار الفائت بدأت 14 آذار بممارسة المعارضة السياسيّة والبرلمانيّة.
طبعاً ثمّة إشكاليّة أحاطت بـ 14 آذار منذ مطلع العام الجاري،هي إشكاليّة التحوّل إلى معارضة - مجرّد معارضة - في مواجهة إنقلاب موصوف بقوّة السلاح، إنقلاب عسكريّ - أمنيّ نفّذ بسلاح غير شرعيّ على الشرعيّة الدستوريّة. إشكاليّة كانَ الرّد المفترض عليها أن تعلن 14 آذار نفسَها ثورةً ديموقراطيّة سياسيّة شعبيّة سلميّة "بكل معنى الكلمة" من أجل إستعادة البلاد إلى سياق ديموقراطي - دستوريّ طبيعيّ. والحق يقال إنّ إحياء الذكرى السنوية لإنتفاضة الإستقلال في الثالث عشر من آذار الماضي، حيثُ تجدّد الحشد المليونيّ، كانَ يؤمل أن يشكّل إنطلاقةً لهذه "الثورة". لكن الذي حصل بعدَ ذلك هو أنّ 14 آذار إكتفت بأن تكون "معارضة".
غير أنّ ما زاد في فداحة الإشكاليّة السالفة، أي إشكاليّة أن تلتزم 14 آذار حدود المعارضة في وقت كان يقتضي تحوّلاً نحو الثورة، هو ما شهدته المنطقة العربيّة خلال الشهور الثمانية الماضية وما زالت تشهده حتّى اليوم من ثورات شعبيّة لـ"التحرّر الديموقراطي".. وصولاً إلى سوريّا. ففي حين يبدو واضحاً أنّ الثورات الديموقراطيّة العربيّة تنقل بإنجازاتها وإنتصاراتها المنطقة إلى مرحلة جديدة، إلى مستقبل مختلف، كانت 14 آذار تبدو بـ"معارضتها" مقيمةً في الماضي، في مرحلة ماضية، وكانَ لبنان يبدو هو نفسه مستمراً في أسر المرحلة الماضية، على الرغم من حقيقة أنّ التحوّلات العربيّة الجارية وهي من طبيعة تاريخيّة وإستراتيجيّة، تفيد لبنان أوّل ما تفيد. وبقاء 14 آذار على وضعيّة المعارضة اليوميّة أي بجدول أعمال يوميّ، كانَ علامة فارقة سلبيّة.
ما الذي يجعلُ 14 آذار كحركة إستقلال وديموقراطيّة ودولة تراوح حتّى الآن في موقع "المعارضة" ولا تنتقل إلى موقع "الثورة"؟
إن العوامل في هذا المجال متعدّدة.
بالتأكيد لا يمكنُ في معرض تعداد العوامل، الحديث عن "جدار خوف" تقف 14 آذار حيالَه ممتلئة خشية. فقوى 14 آذار كانت مجتمعةً أوّل حركة سياسيّة - شعبيّة عربيّة تكسر جدار الخوف وتحطمه، وقد حطّمت جدران الخوف المفتعلة أكثر من مرّة منذ العام 2005.
المسألة إذاً ليست مسألة شجاعة معنوية وسياسيّة ووطنيّة. وتبدو المسألة في "أماكن" أخرى.
لا مبالغة في القول إنّ واحداً أساسياً من العوامل، هو أنّه عند كلّ إنعطافة إستراتيجيّة في البلد - والمنطقة - يعود المشهد إلى مكوّناته الأولى، أي تعود القوى السياسيّة إلى مربعاتها الطائفيّة الأولى. أي إنّ كلّ فريق في طائفة يبحث منفرداً بينه وبين نفسه شؤون طائفته وشجونها وهواجسها و"مصالحها" وآثار المنعطف الإستراتيجيّ عليه بمفرده. وهكذا في مقابل الحديث السياسيّ - الإعلاميّ "العلنيّ" عن أنّ 14 آذار قائمة على الشراكة الإسلاميّة - المسيحيّة وتجسّد هذه الشراكة "المستمرّة"، تغدو 14 آذار في واقع الأمر جزراً سياسيّة - طائفيّة يجري "تجميعها" في مناسبات "عامّة".
وإلى ذلك، لا مبالغة في القول أيضاً إنّ 14 آذار تبدو في الغالب موزّعة بين "جناحين" إذا جاز التعبير. جناحٌ "محافظ" هو الجناح "البعض حزبي" الذي يتعاطى بتقليديّة وببطء مع تطوّرات غير تقليديّة. وجناحٌ "تغييري" أو "ثوريّ" بمعنى أنّه لا يرى نفسه إلاّ في 14 آذار مجتمعة، بل ويفترضها موحّدة، ويريد لها أن تكون مبادرة إلى إلتقاط الإشارات والمتغيرات، ويطرح عليها مهمّات "تحويليّة" للبلد. وواقع الأمر إنّ الحال اللبنانيّة هنا ليست مختلفةً عن الحال العربيّة العامّة التي ظهرت في الشهور الماضية، حيثُ ينبغي ملاحظة أنّ في الإحتجاجات العربيّة أجنحة تقليدية محافظة أحزاباً وشخصيات أقرب إلى مفهوم "المعارضة" وأجنحة "ثورية" لا تؤمن بالتقليد ولا تتعاطى مع "خصائص" متفرّقة بل تتعاطى مع مسائل عامّة. ويمكن القول إنّ الجناح "التغييري" أو "الثوري" في 14 آذار هو بالضبط الرأي العام الـ14 آذاري وفعاليات المجتمع المدنيّ الـ14 آذاري أيضاً.
ينتج عن هذا الواقع البنيويّ لـ14 آذار، أنّ ثمّة بطءاً واضحاً وفادحاً لدى 14 آذار مجتمعة بما هي حركةٌ ديموقراطيّة - شعبيّة في مقاربة المحطّات الإستراتيجيّة وتقديم المبادرات. وعلى أيّ حال، فإنّ هذه الملاحظة الأخيرة لا تتّصل بأمر طارئ أو حالة طارئة، بل هي ملاحظةٌ تصّح إلى حدّ كبير منذ 2005 لجهة الإنتقال المدهش أحياناً من الإستراتيجيّ إلى التكتيكيّ.. من الإنتصار إلى نصف الإنتصار ألخ..
لماذا هذه المقدّمات جميعاً الآن؟.
ثمّة حدثان تاريخيّان إستراتيجيّان الآن يجعلان لبنان مقيماً بينهما. الحدث الأوّل هو السقوط المحتّم لنظام الأسد في سوريّا مهما حاول هذا النظام إطالة عمره، ويمكن القول إنّ هذا النظام "ساقطٌ بالقوّة" الأن في إنتصار "سقوطه بالفعل". والحدثُ الثاني هو مضيّ المحكمة الدوليّة في جريمة إغتيال الرئيس رفيق الحريري في عملها بعدَ نشر القرار الإتهامي وعلى أبواب المزيد من التطوّرات على طريق بدء المحاكمات.
حيالَ هذين الحدثين يحاول "فريق حزب الله" الإيحاء بأنّ ما بعدَهما مثل ما قبلهما، مع العلم أنّ الأمر في داخل هذا الفريق ليس كذلك أبداً، لأنّ أزمته عميقة على إيقاع الحدثين ولانّ هذا الفريق يناقش خياراته من ضمن أزمته الثابتة.
في المقابل ينبغي على 14 آذار أن تنتقل في سياستها إلى مرحلة ما بعد نظام الأسد، وما بعد القرار الإتهامي والمحكمة. ينبغي ان تُعلن أنّ لبنان صار واقعياً في مرحلة جديدة. وينبغي أن تُعلن أنّ ما هو قائم حالياً في لبنان أصبح من الماضي وأنّ "فريق حزب الله" يلعبُ لعبةً منتهية الصلاحيّة. والأهم أن تُعلن إفتتاح معركة الإنتقال إلى لبنان "الجديد" لتخاطب بذلك مصالح اللبنانيين من جهة ولتتموضعَ في داخل الربيع العربيّ من جهة ثانية.
إنّ هذا الإعلان السياسي التاريخيّ المطلوب من 14 آذار، إعلانُ معركة الإنتقال إلى المرحلة الجديدة، وكي تسقط في سياق هذه المعركة "مقوّمات الماضي"، لا بدّ أن تتزامن معه رؤية مستقبليّة إلى لبنان الجديد. ووحدها تلك الرؤية اللبنانيّة "العامّة" هي التي تقدّم المعالجة للإشكاليّات الطائفيّة التي يكثر الحديث عنها، ومنها الإشكاليّة الشيعيّة ما بعد التطوّرات، والإشكاليّة المسيحيّة في الإطارين اللبناني والعربي، إذا وجدتا، لأن لا علاج شيعياً خاصاً لإشكاليّة شيعيّة ولا علاج مسيحياً لإشكاليّة مسيحيّة، فالمعالجة لبنانيّة عامّة بالتأكيد.
أمّا الرؤية التي لا مفرّ من صوغها سريعاً، فهيَ الحلّ اللبنانيّ لـ"القضيّة اللبنانيّة". حلّ يكرّس الشراكة الوطنيّة ويعزّزها، ويؤسس الدولة، ويضع لبنان في العصر العربي الجديد محدّداً موقعه ودوره.
بكلّ تأكيد، إنّ المقدّمات الآنفة تشكل نقداً لـ14 آذار، والهدف منه أن تعبرَ 14 آذار موحّدة إلى المرحلة الجديدة. نقدٌ لا يخفى على من يتقدّم به أنّ في 14 آذار، في العديد من مستوياتها، أصواتاً "ثوريّة" تعكس هذا الوعي للجديد وللمطلوب بإزائه، لكنّه نقدٌ لا بدّ أن يدفع بإتجاه تسريع إيقاع المبادرة.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك