المستقبل
ذكرت صحيفة "المستقبل" انه ثمّة، لا شكّ في ذلك، أسباب وجيهة لقلق مسيحيي لبنان والشرق من "الربيع العربي" جملة أو تفريعاً، واحترازهم منه، بشكل أو بآخر. الأسباب نفسها يمكنها أن تتحوّل في الوقت نفسه إلى دوافع إضافية لـ"ربيع مسيحي"، لبنانياً وعربيّاً، بما من شأنه التأثير إيجاباً على مسار الربيع العربيّ نفسه، إنّما لذلك شروط.
من البديهيّ تماماً أن تتولّد مضاعفات وارتدادات عن مخاض تغييري حيويّ إقليمي يعقب عقوداً مديدة من تسلّط الأنظمة "المومياقراطية" القائمة على عبادة الفرد المحنّط، والحزب الواحد المحنّط، والأجهزة الأمنية الخبيرة بتحنيط كل الميادين، فحتى الإنقلابات العسكرية، والتي كانت تشكّل نوعاً من الحيوية التداولية غير الديموقراطية على السلطة ضمرت منذ نهاية الستينات.
وهذه المضاعفات والإرتدادات التي يولّدها "المخاض" يمكن السيطرة على كثير منها تدريجاً، إلا أنّ بعضها الآخر ستصعب السيطرة عليه إلا بعد أن يفعل فعله، ومن الطبيعيّ هنا أن يفرض ذلك تحدّيات وأعباء مضاعفة على الأقليات الدينية والقوميّة، كما من الطبيعي أن تكون الهواجس والمخاوف لدى الأقليات تتجاوز وبأشواط الواقع الفعليّ للتحدّيات والأعباء، وهو ما يؤدّي في العادة إلى زيادة التحدّيات والأعباء بحكم التهويل الفائض وضبابية الرؤية والشعور بالغربة عن المناخات الصاخبة في "الأكثريات العددية".
يبقى أنّ مسيحيي الشرق يمكنهم، بفضل التحدّيات والأعباء المضاعفة، وبفضل فائض الهواجس والمخاوف أيضاً وأيضاً، أن يروا ما لا يراه "الليبراليّون العرب": إنّهم يرون بشكل أوضح نوعية التوازنات والمكوّنات الإجتماعية والسياسية والإيديولوجية التي تمسك بالحراك الانتفاضي الديموقراطي العربيّ الكبير. إنّهم يبصرون بشكل أفضل ضعف الليبرالية العربية نفسها، بل هشاشتها، بالقياس الى هيمنة الإيديولوجيتين "الشعبوية" و"الغيبوية" على "الربيع العربيّ".
نعني بالإيديولوجيا "الشعبوية" تلك التي تخلط بين مقولة "الشعب مصدر السلطات" وبين مقولة "الشعب فوق كل السلطات"، وبين مقولة "الدستور والقانون ينبثقان من الشعب" وبين مقولة "الشعب فوق كل دستور وقانون". أما الإيديولوجيا "الغيبوية" فإنّها إذ ترفض "تأليه الشعب" فإنها تنزلق إلى الخلط بين عالم الغيب وعالم الشهادة، بما يؤدي عملياً إلى اختلاط الحابل بينها وبين الإيديولوجيا الغريمة لها، أي الإيديولوجيا الشعبوية، هذا في حين تبقى المقاربة الليبرالية على الهامش، ما يعود في جانب منه أيضاً إلى ضعف ليبرالية الليبراليين العرب أنفسهم الذين يفهمون مذهبهم على أنّه اتكال على "حرّية غيبية" تنظّم الصفوف التحرّرية في السرّ، أو أدهى من ذلك، إتكال على "غريزة ليبرالية" لدى الشعوب!
طبعاً، هواجس مسيحيي الشرق وأشكال قلقهم المتفاوتة والمتنوعة بإزاء "الربيع العربي" لا تطرح الأمور بهذا الشكل. لكنها تفهم تماماً، أنّ هناك عراقيل موضوعية وذاتية ما زالت تعترض الرغبة في الإنتقال، وواقع الإنتقال، في الإتجاه الديموقراطي الليبراليّ أسوة بما حقّقته الموجات المنصرمة من التوسّع الديموقراطيّ في جنوب أوروبا وشرقها، أو في أميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا.
باختصار شديد، فإننا نزعم أنّ ثمة رؤية نقدية تغييرية خبيئة في هذا الكمّ من الهواجس ذات الوجه "البالي" أو "المتقادم" أو حتى "البدائي" لدى مسيحيي الشرق: استناداً إلى هذه الرؤية لا يكون الربيع ربيعاً إلا بتجاوز الثنائية الخطيرة، أي ثنائية "تأليه الشعوب" من ناحية (ودروس العقود الماضية تبيّن أن تأليه الحكّام قام على أساس تأليه الشعوب، ولنا دليل في "النظرية الجماهيرية" البائسة للعقيد الفار معمّر القذافي)، و"تحكيم الغيب" من ناحية ثانية.
ما الذي يعنيه هذا عملياً؟ أولاً أنّ الإشكالية الجديّة أبعد من "انخراط" مسيحيي الشرق أو "عدم انخراطهم" في الربيع العربيّ. أبعد من التطوّع إلى تفنيد وتبديد لأشكال هواجسهم وقلقهم، سواء برسالة اطمئنان ذاتية أو برسالة طمأنة توجّهها "الأكثريات العددية".
فالمسألة الأساسية هي أن يقوم مسيحيو الشرق، وبالدرجة الأولى مسيحيو لبنان، بربيعهم كمسيحيين. وربيعهم يكون بتحررهم في الوقت نفسه من مقولات شتى. أولاً تحرّرهم من النظر إلى أنفسهم أو من نظرة سواهم إليهم كـ "سكّان أصليين" مهمّتهم الشهادة على ما تبقى من حضارات "ما قبل الفتوحات". وثانياً تحرّرهم من النظر إلى أنفسهم أو من نظرة سواهم إليهم كـ "جاليات أجنبية" ترى إلى نفسها من حيث هي أقليات عددية تزداد انحسارات في بلدانها الأصلية، ومن حيث هي قادرة على الإندماج في "الأكثرية العالمية" من طريق الهجرة. وثالثاً، وهو الأهمّ، تحرّرهم من النماذج "المومياقراطية" الخاصة بهم، وهذا هو الأخطر والأهم: فإذا لم يبادر أحرار المسيحيين إلى ربيع ديموقراطي ليبرالي ثوريّ داخل مجالاتهم هم، فإنّ هذا يعني تأثّر الأقليات المسيحية نفسها وأكثر من ذي قبل بالإيديولوجيات الشعبوية والغيبوية المنتشرة مع الربيع العربي اليوم، فضلاً عن التأثر ببقايا الأنظمة "المومياقراطية" العربية المحتضرة. وإذا بادر أحرار المسيحيين إلى ربيعهم هم، فهذا بدورهم يمكن أن يرتد إيجاباً على إنشاء مقاربة ليبرالية تاريخية للتطور الديموقراطي لكل بلد عربي مأخوذ بمفرده وبالتطور الديموقراطي السلميّ العام.