وسام سعادة
المستقبل
أخطر ما في تقليعة "تحالف الأقليّات" التي يمارس التواطؤ مع الطاغوت البعثي بإسمها المباشر، أو بإسم مستعار بديل لها، أنّها تقليعة إلغائية لمفهوم "الأقلية" نفسها، ذلك أن شرط الأخذ بهذا المفهوم هو الدراية بأنّه ليس هناك قاعدة معيارية مشتركة تنسب إليها جميع الأقليات، على ما يذكّرنا المستشرق جاك فويليرس (1905-1946) في نصّ ألقاه عام 1936 تحت عنوان "السمات الدائمة للمشكلة السورية مسألة الأقلّيات". في هذا النّص يشرح لنا فويليرس الذي وضع بالمناسبة تاريخاً لبلاد العلويين ودراسات جغرافية لمجرى نهر العاصي، بأنّه لا يمكن الحديث عن أقلّية إلا تبعاً لدرجة تبلور أو تطوّر أو تراجع أو تحلّل "المركّب الأقلويّ" أي المركّب الذي يعطي لـ"الجماعة" لحمة داخلية "مستنفرة" أو "متأهبة" بإزاء الجماعات الأخرى، أكثريّة كانت أم أقلّوية.
ومع أنّ نص فوليريس لا يطوّر بشكل منهجيّ تمييزاً كهذا، إلا أنّ منطقه الداخليّ يفرز تمييزاً أساسياً بين "مسألة الأقلّيات" كما انطرحت في إطار ما كان يُعرَف وقتها بـ"المسألة السوريّة" وبين نظام الملل العثمانية، المسيّرة كل واحدة لشؤونها الدينية والحياتية والقانونية في إطار من الإستقلال الداخليّ وفي ظلّ الرعاية السلطانيّة المتقاطعة مع الحماية الأجنبية. كما يفرز المنطق الداخليّ للنص تمييزاً أساسياً في "مسألة الأقليّات في إطار المشكلة السوريّة" وبين مسائل الأقليات بالشكل الذي طرحته المجالات الأوروبية كافة، وتحديداً المجال الدانوبيّ البلقانيّ. فبهذا المعنى، يعتبر فوليريس أنّ الأقليّة الوحيدة في سوريا التي يمكن احتسابها "أقلية" بالمعيار الأوروبيّ، هي الأقليّة التركية في حلب ولواء الإسكندرون (فالنص موضع العناية هنا كتب قبل سنتين من الـ"سلخ" الفرنسيّ لـ"اللواء السليب")، فهذه أقلية قومية لغوية متركّزة في مناطق جغرافية بعينها وتنادي للإلتحاق بالدولة القومية التي من نسيجها: في البدء استنكر "أتراك سوريا" تخلّي مصطفى كمال عن الأبجدية العربية، لدواع دينية محافظة، ثم سارعوا إلى تبني الحروف اللاتينية والتمسّك بها، لدواع قومية ترافقت مع إعتبار "سنجق الإسكندرون" بمثابة "الألزاس واللورين" بالنسبة إلى تركيا.
أمّا بالنسبة إلى "الأقلّيات" الأخرى، فممتاز نصّ فويليريس، بصرف النظر عن تقادمه البديهيّ بفعل كل هذا الفاصل الزمنيّ بيننا وبينه، وبين المسألة السوريّة في أيّام الإنتداب الفرنسيّ، وبينها اليوم في أيّام الإحتضار الدمويّ للنظام البعثيّ الفئويّ. لكن المهمّ أن فويليريس الذي ميّز بين العنصرين "الموضوعيين" لتعريف الأقليّات السوريّة (العنصر القوميّ - اللغويّ والعنصر الدينيّ المذهبيّ)، عاد وقسّم هذه الأقليّات بين القومية المتشكّلة (أتراك سوريا الذين انفصل أكثرهم عنها عام 1938)، والتي في طريقها إلى التشكّل (الأكراد والعلويين) أو في طريقها إلى الضمور والتحلّل (وضع الشركس والإسماعيليين في هذه الفئة) وأقليّات الدياسبورا أو "الشتات" (الأرمن واليهود) في مقابل "الأقلّيات" المتصل وجودها رأساً بالعصر القديم للمنطقة (كالكلدان والأشوريين) أو "الأقليّات" التي شكّلت مطوّلاً النسيج الأكثريّ لهذه المنطقة ثم دخلت في نظام الملل العثماني (الروم الأرثوذكس).
لا شكّ أنّ تطوّر العلوم الإجتماعية قد أتى على هذا التقسيم الإعتباطيّ في مواضع كثيرة، فضلاً عن أنّ تناول فويليريس لـ"مسألة الأقليات في إطار المشكلة السوريّة" كان يباهي بعضويته في الخطاب الإستشراقي الكولونياليّ الفرنسيّ وقتها. مع ذلك، يسجّل هذا النصّ إن أعدنا قراءته اليوم جملة أمور. أهمّها أنّه يسقط مقولة "تحالف الأقليّات" من أساسه، فالأقليّات يتطوّر مركّبها الأقلويّ ووعيها الأقلويّ بإزاء بعضها البعض أساساً قبل أن يتطوّر بإزاء "الأكثريّات". وبالتالي فإن المدلول الوحيد لـ"تحالف الأقليّات" هو تذويبها في "أقليّة جامعة جديدة": أي إلغاء التعدّدية الدينية واللغوية والمناطقية بالكامل، لأجل "أقلية كبيرة جامعة" ليس فيها مكان لأي تعدّدية، وإنّما يترك المجال فيها سائباً للتخليط، وطبعاً فإنّ المهيمن على هذه المعادلة هو الذي يجترح الخلطة التي تحلو له. إذاً، فإنّ "تحالف الأقليّات" ليست مشكلته فقط أنّه يريد جرّ أبناء الأقليّات إلى "التوقع والإنعزال" وما شاكل من أمور. مشكلته الأساسية أنّه يريد إلغاء الأقليّات، إلغاء إختلاف الواحدة فيها عن الأخرى، وتحويلها جميعاً إلى نسخة "وقائية" أو "دفاعية" أو "هجومية" عن النظام الفئويّ البعثيّ الآيل إلى الإحتضار، بل الآيل إلى السقوط، وهنا تكشف تقليعة "تحالف الأقليات" بعداً كارثياً إضافياً لها: لقد فاتها أن الإشكالية لم تعد مثلاً حماية نظام آل الأسد للمسيحيين، وإنّما ما تقترحه هي حماية المسيحيين لنظام آل الأسد الدمويّ في انهياره، وفي هذا عقم فكريّ مطلق، وفوق ذلك عقم لاهوتيّ مطلق: إذ ما أبعدنا عن يوحنا فمّ الذهب الذي كان فمّه ذهباً لأنه لم يتأخّر يوماً في مهاجمة الإمبراطور والإمبراطورة والإكليروس الذي يليهما. والحقّ أن مسيحيي الشرق عليهما اليوم واجب الإختيار بين "فمّين"، أحدهما فمّ يوحنا، فمّ الذهب!