يقتصر الجدل الدائر حالياً حول تمويل المحكمة الدولية على المواقف المعلنة، دونما الخوض في سبل التوصل إلى مخرج مناسب يزيل تناقض موقفين متنافرين: إصرار الرئيس نجيب ميقاتي وحلفائه على تسديد لبنان حصته في موازنة المحكمة، ورفض حزب الله وحلفائه تمويلها.
يلزم حزب الله الصمت حيال موقفه من تسديد لبنان حصته في الموازنة السنوية للمحكمة الدولية، فيما يُسهب الأفرقاء الآخرون المعنيون، من داخل الائتلاف الحكومي، في تأكيد مواقفهم المتناقضة من التمويل. ويوحي الحزب بعدم استعجاله بتّ هذا الاستحقاق، وبوجود فسحة كافية من الوقت تساعد على التوصّل إلى تفاهم حيال التمويل قبل الإجابة علناً عن السؤال المحيّر: هل ستوافق حكومة الرئيس نجيب ميقاتي على هذا التمويل أم لا؟
إلى الآن، يُدرج حزب الله موقفه من المحكمة الدولية في المعطيات الآتية:
1ـ لأنه يصفها ـ وقد وصفها كذلك أمينه العام السيّد حسن نصر الله مراراً ـ بأنها محكمة إسرائيلية ـ أميركية مسيّسة، رافضاً الاعتراف بها والتعاون معها، يبدو من المنطقي أن لا يوافق حزب الله على تمويل محكمة دولية يوجّه إليها اتهامات كهذه. والأحرى أن يكون موقفه أكثر انسجاماً برفض التمويل بعد صدور قرار اتهامي وجّه أصابع الاتهام إلى أربعة من أفراد الحزب باغتيال الرئيس رفيق الحريري. وهو لا يسعه تمويل محكمة تحاكم هؤلاء الذين يصفهم بأنهم مظلومون ومقاومون شرفاء.
2 ـ يتفادى الحزب التعليق على المواقف المتكرّرة لرئيس الحكومة بتأكيده استمرار تعاون حكومته مع المحكمة والتزام لبنان تعهّداته للمجتمع الدولي. وكان ميقاتي قد سمع الإصرار الدولي الأحدث حيال هذا الالتزام في أثناء مشاركته في مؤتمر «أصدقاء ليبيا»، في باريس في أول أيلول، من وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون ومساعدها لشؤون الشرق الأدنى السفير جيفري فلتمان، وكذلك من مسؤولين فرنسيين وعرب على هامش المؤتمر، عندما حضّوه على إيفاء لبنان التزاماته الدولية وأخصّها بإزاء المحكمة. وشدّدت كلينتون وفلتمان أمام ميقاتي على أن تمويل المحكمة يمثل امتحاناً أساسياً ينتظر حكومته للإيفاء بالتعهّدات، والتعاون مع المجتمع الدولي. كذلك أكثرت السفيرة الأميركية مورا كونيللي من تأكيد هذا الموقف قبل تأليف الحكومة وبعده. وفي ردوده على هذه المطالبة، قبل التأليف وبعده، كفل ميقاتي التزام لبنان تعهّداته واحترامه التعاون.
لم يكن حزب الله في كل مرة بعيداً من الاطلاع على هذه المواقف، متفهّماً في الوقت نفسه الدوافع التي أملت، ولا تزال، على ميقاتي تأكيد التزامه الذي يتناقض مع وجهة نظر الحزب. مع ذلك، لم يُبرز حزب الله هذا التناقض إلى العلن، ولا انتقد أجوبة رئيس الحكومة والتزامه الصريح، وأعطى أكثر من إشارة إلى استيعابه الضمني ما يقوله رئيس الحكومة، من غير أن يعني ذلك موافقته على التمويل. أولى المحافظة على الغالبية النيابية الحالية أولوية قصوى، وقلّل من وقع الخلافات في ما عداها.
3 ـ كان الموقف من المحكمة، ومن ملف شهود الزور الذي يمثل جزءاً لا يتجزأ منها، والأكثر تعبيراً عن تسييسها، في صلب إطاحة حكومة الرئيس سعد الحريري والمجيء بحكومة ميقاتي. كذلك فإن جانباً من نقاط التفاهم مع ميقاتي، قبل تسمية الغالبية الحالية له رئيساً مكلفاً للحكومة، بحسب الحزب، تركز على البنود الثلاثة التي كانت قد أوردتها التسوية مع الحريري، وهي تعديل بروتوكول التعاون مع الأمم المتحدة وسحب القضاة اللبنانيين ووقف تمويل المحكمة.
قال الحزب في أوساطه مذ ذاك إنه لا يطلب من ميقاتي أكثر ممّا طلبه من الحريري، ولا يتوقع أن يأخذ منه أقل ممّا تعهّد الحريري إعطاءه إياه في التسوية تلك التي أسقطها حزب الله. عند هذا الحدّ قصر الحزب موقفه من التعاطي مع ملف التمويل، آخذاً في الاعتبار تفاهمه مع رئيس الحكومة آنذاك مناقشة هذا الموضوع بهدوء وروية، وبعيداً من الضجيج والصخب الإعلامي، من أجل التوصّل إلى مخرج يلائم الطرفين، ويجنّب ائتلافهما الحكومي خضة غير مبرّرة.
4 ـ إلى موقفه البالغ السلبية منها، يعرف حزب الله أن امتناع لبنان عن تسديد حصته في تمويل المحكمة لا يعرقل مدّها بالمال من مصادر أخرى ينصّ عليه نظام المحكمة، ولا يعطّل عملها حتى. إلا أنه يجد في رفض التمويل دلالة رمزية على موقف سياسي يتخطى القيمة المالية للمساهمة اللبنانية في موازنة المحكمة ـ وهي ليست قليلة في أي حال؛ إذ تبلغ نسبة 49 في المئة ـ إلى التشكيك في صدقيتها وتثبيت اتهامها بالتسييس واستهدافها حزب الله والمقاومة.
5 ـ يربط مسؤولون رسميون عاملون على خط التوصّل إلى المخرج الملائم من خلال مجلس الوزراء، بين الاتفاق على التمويل وإحالة ملف شهود الزور على المجلس العدلي. بذلك يتساوى التزام لبنان تعهّداته الدولية والتعاون مع المحكمة وفتح حكومة الغالبية في الوقت نفسه النار على تسييس المحكمة عبر الخوض علناً في ملف شهود الزور.
استحقاق آذار
ورغم اتضاح مواقف معظم أفرقاء الائتلاف الحكومي من التمويل، فيؤيده إلى ميقاتي رئيس الجمهورية ميشال سليمان ورئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط، ويعارضه تكتل التغيير والإصلاح الذي يتقدّم رئيس المجلس نبيه برّي وحزب الله في رفض التمويل، يبقى الغموض يشوب المخرج الذي يمكن التوصّل إليه لبتّ هذه المسألة الشائكة، مع تأكيد هؤلاء الأفرقاء أن الخلاف على تمويل المحكمة لن يفضي إلى تقويض الحكومة. بل الأصح أن الخلاف والتباعد على أي من الملفات الداخلية لن يحمل بذور إهدار الائتلاف الحكومي، ولا دفع رئيسها إلى الاستقالة. يُعزّز ذلك حجّة مؤيدي تسديد لبنان حصته، من داخل الغالبية النيابية، لأسباب أبرزها:
ـ لأن الحكم استمرار، ينبغي أن لا تنقض حكومة ميقاتي تعهّدات كانت قد قطعتها للأمم المتحدة حكومتا الرئيس فؤاد السنيورة عامي 2005 و 2008 وحكومة الحريري عام 2010 ، المتعلقة بالتعاون مع المحكمة الدولية، وهي التزامات على لبنان، لا على الرئيسين السابقين للحكومة، وتُساءَل بها حكومة ميقاتي التي خلفت حكومة الحريري تبعاً للأصول الديموقراطية والدستورية، على نحو مماثل للأصول نفسها التي خلفت فيها حكومة الحريري حكومتي السنيورة. بذلك أورث كل من الحكومات الأربع هذه، بين أعوام 2005 و 2011، الأخرى التزامات دولية لا يسعها التنصّل منها. ودون التزامها احتمال تعريض لبنان لعقوبات يفرضها عليه مجلس الأمن.
ـ ثمّة مَن يهمس في أذن حزب الله أن الاستحقاق الأدهى من التمويل هذا الشهر، هو ذلك المؤجل في آذار 2012، وهو استحقاق انتهاء السنوات الثلاث من ولاية المحكمة الدولية التي أعلنت عام 2009، وتنتظر في آذار المقبل موقف لبنان من تمديد انتدابها ثلاث سنوات أخرى، الأمر الذي يطرح أمام حكومة الغالبية الحالية السؤال الأشقّ: هل يريد لبنان تجديد عمل المحكمة الدولية بلا شروط، أم أنه يقرن التجديد بفتح باب السجال حول قانونية إنشاء المحكمة من خلال الطعن بنظامها الأساسي بعدما تجاهل الصلاحية الدستورية لرئيس الجمهورية وتجاوز إمرارها في مجلس النواب، فضلاً عن مآخذ شتى حيال الإجراءات التي تتبعها المحكمة في آلية كشف قتلة الحريري الآب .
تالياً، ينظر أولئك الذين يهمسون في أذن حزب الله بأهمية قصوى إلى محطة آذار المقبل كي تكون مناسبة يراجع لبنان خلاله موقفه من المحكمة الدولية، وخصوصاً أنه الطرف الآخر الذي وقع بروتوكول التعاون مع الأمم المتحدة، ويصعب سياسياً تجاوز موقفه من استمرار عمل المحكمة أو التحفظ عن استمرار عملها على نحو السنوات الثلاث المنصرمة.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك