ليست الفكاهة من ميزات الفلسطينيين الذين نزل عليهم من البؤس والشقاء ما لم ينزل على شعب آخر على وجه الارض. لكنهم بدأوا يكتشفون الآن ذلك الحس الدال في العادة على إنكار للقدر الذي غالباً ما يتخذ شكل سلطان جائر او غازٍ متجبّر.
حتى قبل أن يلقي رئيسهم محمود عباس كلمته التاريخية أمام الجمعية العامة للامم المتحدة، ويتقدّم بطلب قبول عضوية دولة فلسطين، شرعوا في تخيّله مرتدياً الثوب الابيض الطويل والقلنسوة الذهبية المرتفعة والحذاء البنفسجي اللامع، ملوحاً بالمبخرة الفضية في وجه المؤمنين، الذين يخرج من صفوفهم بعض المتحمسين طالبين تقبيل إحدى يديه، فيبعدهم افراد الامن بهدوء وتهذيب.
تلك هي الصورة الجديدة التي ترتسم الآن في اذهان الفلسطينيين، او بالتحديد ظرفائهم الجدد، للبابا محمود عباس، الذي سيعود من نيويورك بدولة تحمل صفة مراقبة في الامم المتحدة، يجلس مندوبها الدائم خلف سفير الفاتيكان، وينافسه في توزيع القرابين على مندوبي الدول الأعضاء، وفي تعطير قاعة الجمعية العامة بل والمبنى كله برائحة البخور.
في الداخل وفي المنفى، لم يعد يُقال إنها مجرد صورة كاريكاتورية للرجل الوقور والقضية الموقرة والشعب المقهور. «الخيار الفاتيكاني»، كما بات يوصف الآن بعدما تبناه الاوروبيون واطلقه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي رسمياً كمخرج من تعنت اسرائيل وتواطؤ اميركا، قد يكون أهون الشرّين: شر العودة من نيويورك بخفي حنين، وشر البقاء هناك الى ما لا نهاية.
يقال تندّراً: ما المانع؟ فالكل يعرف ان دولة الفاتيكان هي واحدة من أقوى دول العالم وأوسعها نفوذاً وتأثيراً ليس فقط في ما يقرب من نحو مليار نسمة من اتباع الكنيسة الكاثوليكية. وهي دولة في حالة صراع تحول الى سجال مع اليهود حول جريمة ارتكبوها قبل أكثر من الفي سنة، ما يوفر للمفاوض الفلسطيني مع إسرائيل فرصة هائلة للاستفادة من ملفات الفاتيكان وخبراته التفاوضية.. كما يتيح له المشاركة في النقاش الدولي الذي يفتحه الكرسي الرسولي بين الحين والآخر حول الإجهاض وحقوق المثليين والمرأة والانشقاق على الكنيسة، طالما انه لا مجال للبحث في قضايا الحدود وحق العودة، والقدس التي كانت وستبقى قضية مشتركة فلسطينية فاتيكانية!
يقال تفكّهاً: لا مشكلة في تحويل رام الله الى ما يشبه كنيسة القديس بطرس في الفاتيكان، فالاجتماعات التي تنعقد هذه الأيام في مقر المقاطعة برئاسة البابا محمود عباس، والتي يشارك فيها كرادلة السلطة الفلسطينية او بطاركة حركة فتح، لم تعد تبحث قضايا دنيوية، بل باتت تعنى بالمسائل الفقهية والروحية والأخلاقية، أكثر بكثير مما يفعل مطارنة حركة حماس في الكرسي الرسولي في غزة.. والذين يمكن إغواؤهم أكثر من اي وقت مضى بالعودة الى الكنيسة الأم وتحقيق المصالحة الوطنية، الموصى بها في مختلف الكتب السماوية.
الوقت ليس وقت المزاح الفلسطيني، لكن ما يبدو اليوم أنه طرفة يمكن أن يصبح غداً حقيقة، تستدعي دق الأجراس في العالم كله.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك