لا مشكلة أبدا في زيارة البطريرك للجنوب بعد بعلبك. ولا مشكلة البتة في زيارة المفتي لبعض أنحاء الجنوب. على العكس، هذه مبادرات طيبة، طبيعية بل عادية. لكن ما جعلها مستهجنة وأدار طواحين الثرثرة حولها هو العقلية المتعفنة التي رسّخت فكرة أن هذه المناطق باتت محرّمة على فئة سياسية دون فئة. والواهم أنها مقفلة عمليا في وجه الدولة، خصوصا اذا لم يكن رئيس الحكومة مرضيا عنه من "الحزب الحاكم" الذي يحمل المفاتيح فيغلق البوابات او يفتحها بحسب هوية الزائر وأهواء اللحظة السياسية. فالمفتي، مثلا، صار مرحبا به لأنه أعاد تموضعه وفقا لحساباته ومصالحه، بل أنه لم يستحق الزيارة اليها بعدما أجرى بعض اللقاءات في مكتبه برهانا على حسن سلوكه. أما البطريرك فاستحق الحفاوة بعد تصريحاته الباريسية التي شكلت في نظر المحتفين إبلاغا علنيا عن اعادة تموضع.
طبعا، لا أحد يمنع أحدا من التموضع كيفما يشاء. ما يفترض أن يعني اللبنانيين هنا أن حال السلاح غير الشرعي، كما في أحلك فترات الحرب الأهلية، أعادت انتاج المناطق غير المرحب فيها بالآخر، لا سيما اذا كان يمثل الدولة. كل زيارات المسؤولين (المقبولين) تتم بعناية "الحزب الحاكم" - "حزب الله". لكن هذه المظاهر لا تعني ان الجنوب مفتوح على الدولة كسواه من المناطق اللبنانية. فوجودها هناك خاضع لـ"الفلترة" السياسية والامنية التي لا تمنع ظهور المزيد من العملاء مع العدو من غير المصنفين في الجانب السياسي المناوئ. وإذ يسوّغ "الحزب الحاكم" لعناصره اختراق كل المناطق، بذريعة أنه يستعد لحرب ستعم كل لبنان هذه المرة، إلا أنه يسهر على إبقاء الجنوب مطهرا من أي وجود حقيقي وطبيعي للدولة، أي لجميع اللبنانيين.
رحم الله أيام كان الراحل ريمون اده يعتبر نفسه نائبا عن كل لبنان وجميع اللبنانيين، فيستقل سيارته الى أي منطقة، وبالأخص الى الجنوب، يتفقد العسكريين في مواقعهم، ويجول بين القرى والبلدات، يجالس مواطنيه صاغيا ومستفسرا ويعود الى بيروت ليطلق صرخاتهم. لو كان لا يزال بيننا اليوم لاحتاج الى "تأشيرة" قبول سياسية، وقد لا يحصل عليها لأنه يتكلم بحرية ضميره وليس إرضاء لـ"الحزب الحاكم" أو خوفا من سلاحه.
بعد حرب 2006 كان متعذرا على أي وزير في الحكومة أن يقترب من الضاحية الجنوبية لمعاينة آثار القصف. وكما في الضاحية كذلك في الجنوب كان على الدولة أن "تحتال" للوصول الى المناطق المتضررة وتشخيص الوضع والاحتياجات. لم تكن مهمة الموظفين المختارين "بحساسية" سهلة. عوملت الدولة كما لو أنها هي العدو. وفي صيف 2010 كتبت احدى الصحف انه ما كان (أي ما كان ليسمح) لرئيس الحكومة بزيارة الجنوب لو لم تكن المناسبة احتفالا بأمير قطر حين كان لا يزال سمنا على عسل مع الرئيس السوري. وكانت لفتة وفاء لمساهمة قطر في إعمار الجنوب، ولم يقل المحتفلون لماذا اختاروا الجحود والنكران حيال مساهمات عربية اخرى، منها سعودية مثلا، لم تكن أقل بل لعلها كانت أكبر. هذا ناجم ايضا عن عقلية إقفال المناطق وتحريمها.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك